كاتبة و أكاديمية سعودية
عندما كنت أحزم حقائبي للعودة للوطن بعد ما يقارب العقد في المملكة المتحدة كان السؤال الأبرز من صديقاتي آنذاك هو: كيف ستتأقلمين من جديد في الوطن؟ الطريف أن السؤال كان يأتي في الغالب ممن لم تمض أكثر من بضعة أشهر إلى أقل من سنتين في الغربة، ومع ذلك تبدو العودة لها شبحاً مرعباً! وظل السؤال يتردد على مسامعي بعد عودتي، والحقيقة أنني لم أمر –بحمد الله- باكتئاب ما بعد العودة، ربما لأنني كنت قد اتخذت قراراً سابقاً بألا أكرر غلطة المبتعثين العائدين وشكواهم الأبدية التي تجعل كل من حولهم يضجر منهم. أو ربما لأنني كنت قد اكتفيت بالفعل من الغربة. ثم تشاء الظروف أن أرحل بعدها تارة أخرى، فأمر بمرحلة التأقلم في البلد الجديد ثم الاستعدادات للعودة للمرة الثانية. ومع أنني لا أخشى العودة كثيراً، لأنني أدرك عن تجربة بأن للحياة في أي مكان ميزات وعيوبا، لكنني أعرف أن هذا الأمر يؤرق بالفعل نسبة لا بأس بها من المبتعثات المقبلات عليه.. فما سبب ذلك؟
الصدمة الحضارية العكسية، التي تحصل للمغتربين بعد العودة لأوطانهم، ليست خاصة بنا، بل يعاني منها حتى الغربيون الذين يعودون من بلداننا لمواطنهم الأصلية بعد عدة سنوات. وكانت هناك محاضرات اختيارية في جامعتي تقدمها كلية الدراسات العليا للطلبة الأجانب الذين هم على وشك التخرج لتجهزهم عن كيفية التعامل مع هذه الصدمة الموقتة بعد النجاح والعودة للأوطان.
لكن هناك بضعة أمور مقلقة تكاد تكون خاصة بالمرأة السعودية التي ستعود للوطن بعد تجربة الحياة في الخارج، خاصة إذا كانت طالبة وليست مرافقة، أي إنها حتماً ستتعامل مع الآخرين وتعتمد على نفسها في أمور عديدة. فهذه المرأة تعرف ابتداء أنها ستفقد حريتها في التنقل، وحين أتحدث عن حرية التنقل فلا أعني فقط قيادة السيارة، فليست كل المبتعثات لديهن سيارات أو رخص قيادة، وإنما أيضاً استخدام المواصلات العامة من حافلات وقطارات الأنفاق وغيرها (كنت أذهب لعملي على ضفة نهر “التيمز” أحياناً على ظهر مركب نهري!) وهذه الحرية ليست خاصة بها بل لمحرمها كذلك. فهو لم يعد مضطراً للعمل كسائق خاص للعائلة طوال الوقت، بل يعلم أنه يستطيع الاعتماد على زوجته لتدبير بعض أمورها وأمور العائلة.
وحتى دون استخدام المواصلات من أي نوع، تعرف الطالبة السعودية أنها عندما تعود لن تكون قادرة على استخدام “الموتو-رجل” والمشي حتى نهاية الشارع لابتياع ما تحتاجه من الصيدلية أو البقالة، ليس لأن هناك قانوناً يمنعها، ولا تشريعاً يحكمها، بل لأن العادات تقول إن القيام بذلك غير آمن ولا لائق. وحتى لو استجمعت شجاعتها وضربت بالتقاليد عرض الحائط لوجدت أن ذلك متعذر فعلياً. فلا يوجد معبر للمشاة وسط مسارات السيارات، وليست لدى معظمنا الشجاعة للقيام بالعبور الفدائي!
وإذا نحينا موضوع المواصلات، على أهميته وارتباطه بكل جزئية من حياة المرأة ابتداء من عملها، مروراً بمواعيد المستشفى، وصولاً للذهاب للسوق أو لزيارة الأهل، سنجد متعاً بسيطة أخرى يزعجها أنها ستحرم منها. هذه المتع المباحة تشمل وجود نوادٍ صحية في كل حي من المدن الصغرى كما الكبرى وبأسعار معقولة، ووجود حدائق تستطيع أن تمارس فيها المشي كرياضة، ومكتبات عامة تستطيع أن تدرس فيها أو تكتب أو تقرأ. وإذا تحدثنا عن الأطفال فسنجد أن هناك الكثير من النشاطات التي تحرم الأم من ممارستها مع أطفالها، وإن وجودت فهي بجهود فردية من قبل النخبة في مدينتين أو ثلاث على الأكثر.
ونأتي إلى الترفيه الذي يعاني من غيابه الجميع سواء الرجال أو النساء أو حتى الأطفال، وهو غياب السينما والمسرح وما يدخل في حكمهما. وقبل أن ندخل في جدلية الحلال والحرام، سنقول بأن التلفزيون الرسمي للدولة ومنذ بداياته وهو يعرض الأفلام العربية والأجنبية بعد أن ينتقي منها ما يناسب ثقافتنا، ويقوم بإزالة بعض المشاهد الخارجة، وهو ما تقوم به الكثير من دول الخليج المجاورة، والتي تجد سينماتها تغص بالعائلات السعودية في كل إجازة. كما أن العائلة بنفسها تنتقي ما يناسبها، فحتى في الغرب هناك تصنيفات للأفلام ولمن يسمح له بدخولها بحسب الأعمار، وليس الحديث فقط عن الجنس وإنما أيضاً عن العنف أو المشاهد المرعبة واللغة كذلك. ويمكن أن تكون هناك صالات للعزاب من الشباب، وأخرى للعائلات، فليس مطلوباً منا استيراد الأمور كما هي وإنما نستطيع أن نطوعها كما نشاء لتتوافق مع قيمنا.
يعتقد البعض أننا عندما نتحدث عن المدن الناجحة والجميلة والتي يتمنى المرء لو يعيش فيها نتحدث فقط عن مدينة نظيفة وآمنة، وطرق معبدة، ومدارس ناجحة، ومستشفيات صالحة، وبلديات فاعلة، وشبكات ماء وكهرباء وصرف صحي متميزة، وإدارة وتدوير نفايات جيدة، وكل هذا بالطبع من الأولويات غير القابلة للنقاش، لكن الترفيه والمتعة للأفراد والأسر أيضاً من الأولويات التي لا يجب أن تغفلها أي مدينة ترغب في أن تكون ليس فقط حاضنة لأهلها وإنما جاذبة للمتميزين لاسيما من الشباب. وفي بلد أغلبيته شابة مثل السعودية، فإن واقع المدن الحالي لا يعكس تطلعات الشباب ولا أحلامهم، مما يجعلهم يرغبون بالهجرة لأنهم يشعرون بأن مدنهم باتت طاردة لهم.
لقد حبانا الله بوطن رائع فيه كثير من كل شيء، وهو قابل لو اتبعنا الشرع لا العادات المقيدة لأن يصبح مركز جذب سياحي من الطراز الأول على مستوى المنطقة والعالم الإسلامي، لكننا في الوقت الراهن علينا التفكير بكيفية جعله جاذباً لسكانه الحاليين ولأولئك العائدين بالآلاف من وراء البحار قبل أن نسوقه في المعارض السياحية لمن هم خارج الحدود.
المصدر: الوطن اون لاين