كاتب سعودي
جرفتْ الولايات المتحدة وراءها العالم بأسره إلى الهاوية، نتيجةً لأزمتها الأخلاقية قبل أن تكون مالية، جرفته إلى مصيرٍ مجهول قياساً على ما شهده العالم من سيناريو للأزمة المالية طوال خمس سنواتٍ مضت، وها هو اليوم يمر بأحد منعطفاته الساخنة كالعادة، تحت حد سيف ”الدين الأمريكي”، يترقّب العالم ما ستسفر عنه صراعات الحزبين الحاكمين فيها بعد خمسة أيامٍ من تاريخ اليوم! إنّه سؤال الساعة في كل متر مربع من محيط الأرض.
لماذا يا تُرى شهدنا قلاع العالم المالية العملاقة تتهاوى كأحجار الدومينوز، بسبب تجاوزاتٍ ومخالفات ارتكبتْ بدءاً من الـ ”وول ستريت”، وصولاً إلى صراع الديكة بين الحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة حول رفع سقف الدين من عدمه؟! وهل لهذا الخوف والهلع العالمي ما يبرره؟ وماذا على كل طرفٍ من الشبكة العالمية المالية المعقدة التفاصيل أن يقوم به لدرء الخطر عنه، أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟ حينما تؤكد الإحصاءات الأمريكية المصدر أن جميع دول العالم باستثناء ما يمكنك عدّه على يدٍ واحدة، قد أودعت جزءاً لا يُستهان به من أموالها واستثماراتها في معقل الرأسمالية المعاصر، فإنه سيسهل عليك فهم لماذا تهاوتْ وتتهاوى الأسواق المالية بهذه الصورة المرعبة! وحينما تعلم أن ”سماسرة” الفوضى المالية الأمريكية جابوا الأرض طولاً وعرضاً لتسويق منتجاتهم الائتمانية المهيكلة على أساسٍ من الطمع ولا سواه، كان من أخطرها ”فيروس” سندات الرهن العقارية، ستتأكد لديك فكرة أكثر وضوحاً عن أسباب هذه القيامة العظمى في عالم المال والاقتصاد.
هل يقف خوف الجميع عند مجرد خفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة مقابل قروضها السيادية؛ كنتيجة لفشلها المحتمل في عدم قدرتها على رفع سقف دينها التريليوني المتجاوز لـ 100 في المائة من حجم اقتصادها، بل إن الأمر يتجاوز ذلك الحد بكثير؛ ذلك لما تمثله الولايات المتحدة من ثقلٍ هائل في ميزان الاستثمار الدولي، فوفقاً لإحصاءات BEA التي تصبُّ فيها جميع بيانات وإحصاءات الاقتصاد الأمريكي، استودع العالم أكثر من 22.8 تريليون دولار أمريكي حتى نهاية عام 2010 داخل أمريكا ”لم أتمكّن من تحديث الإحصاءات لتوقّف جهة المصدر عن العمل نتيجة الأزمة الأمريكية”، في المقابل تدفع الولايات المتحدة خارج حدودها كأكثر الدول المالكة لاستثمارات خارج حدودها أكثر من 20.3 تريليون دولار أمريكي، ما يعني أن صافي الاستثمار الدولي للولايات المتحدة حتى نهاية الفترة لصالح دول العالم، بقيمة سالبة بلغت أكثر من 2.5 تريليون دولار أمريكي، بهذا تتربع الولايات المتحدة دون منافس على قمة الاستثمار الدولي.
تبيّن القراءة التفصيلية للاستثمارات العالمية داخل الولايات المتحدة، أن الخطر الأكبر آتٍ من نحو 63.1 في المائة من إجمالي تلك الاستثمارات، أي ما يعادل نحو 14.4 تريليون دولار أمريكي، تتمثل في 3.5 تريليون دولار أمريكي لبند المشتقات المالية، وأكثر من 9.6 تريليون دولار أمريكي للسندات والأسهم العائدة للشركات الأمريكية والتزامات على البنوك الأمريكية لصالح المستثمرين الأجانب.
الاقتصاد الأمريكي هو الشريك الأكبر اقتصادياً وتجارياً واستثمارياً على مستوى العالم، ومن هذا المنطلق يستمد أهمية معرفة أية تطورات أو تحديات تجري على سطحه بالنسبة لأي طرفٍ من شركائه، فإنْ سقط فلن يكون وحده، بل سيجرّ العالم بأسره خلفه، وقد شهد العالم ويلات سقوط بعض بنوكه الاستثمارية نهاية 2008، فما بالنا والعالم يترقّب أزمةً تهدد حكومتها هذه المرة؟!
يكفي حتى هنا بالنسبة لنا أن لدينا ”ميزاناً رقمياً” يمكن لنا بواسطته أن نستشف حجم وعمق المشكلة المالية الأمريكية، ودرجة ارتباطها بما حدث ويحدث والمتوقع حدوثه مستقبلاً. وعليه، إذا أردنا أن نعرف إلى مدى قد يتأثر الاقتصاد السعودي بهذه الأزمة المزعجة، فإن علينا الكشف بشفافية قصوى عن أي ”ريال” لنا يُحتمل أن يكون مودعاً ضمن هذه الثروات الهائلة المرسلة إلى أروقة الاقتصاد الأمريكي، وهذا المطلب الاقتصادي الملح يشمل جميع الأطراف بدءاً من الحكومة، مروراً ببنوكنا المحلية، وانتهاء بشركاتنا المساهمة وحتى الشركات العملاقة المؤثرة في الاقتصاد الوطني. إلى وقتٍ قريب شهدنا ارتفاع درجات المخاطرة في الولايات المتحدة باستثناء ما كان مرتبطاً بالحكومة الفيدرالية الأمريكية، الذي كان مبعث اطمئنانٍ إلى حدِّ كبير، بدا أن حدوده قد تنتهي متى ما فشلت ”واشنطن” في جهودها الساعية إلى رفع سقف الدين الحكومي الذي وصل إلى حدوده القصوى!
أمام هذه المخاطر والتقلبات المشاهدة على السطح المالي والاقتصادي العالمي، ماذا يمكن قوله في مواجهتها خاصةً وأننا قد استودعنا أرصدةً من الاستثمارات في الخارج أغلبها مُقيّمٌ بالدولار الأمريكي؟! لا بد أن نتعلم جميعنا من الدروس والتجارب التي مرّت وتمر بنا، وأن نبادر بممارسة المسؤوليات والأدوار الموكلة لكل طرف، هدفنا المشترك المحافظة على مكتسبات الوطن واقتصاده ومجتمعه، وعليه أجدُ أنه من الضرورة القصوى؛ أن تبادر الجهات الاقتصادية والمالية المحلية بالمزيد من الشفافية المستمرة، واتخاذ القرارات والإجراءات الهادفة إلى تعزيز الاستقرار الاقتصادي والمالي، وأن تستشعر المسؤوليات الملقاة على عاتقها تجاه المصلحة العامة، ولا تنتظر كما شهدنا طوال الأزمات السابقة – وليس الأزمة الأخيرة فحسب – نداءات المجتمع والإعلام للقيام بذلك. كما يجب أن تعتمد في ممارستها لأدوارها ومهامها عنصر المبادرة باتخاذ ما يلزم، لا أن تنتظر اتساع دوائر الأزمات ومن ثم لا تتجاوز أدوارها مجرد ردود فعل، أو مجرد تصريحاتٍ مقتضبة خالية من الشفافية المقبولة أو المقنعة.
ختاماً؛ تقبّل الله من الجميع كل أعمالهم الصالحة، وحجاً مبروراً، وسعياً مشكوراً، وكل عامٍ وبلادنا العزيزة وأهلها الكرام وأمتنا الإسلامية والعربية في ألف خيرٍ وسلام وتقدّم.
المصدر: الإقتصادية