كاتب وإعلامي من دولة الإمارات العربية المتحدة
أول ما يلفت نظرك حين تهبط بك الطائرة في العاصمة الرومانية بوخارست اسم المطار «مطار هنري كواندا»، فتتساءل لماذا سمي باسم شخصية غير سياسية، رغم أن المطارات غالباً ما تُسمى بأسماء السياسيين، مثل مطار «جون إف. كينيدي» في نيويورك، ومطار «شارل ديغول» في باريس، خاصة أن أول ما يخطر في الذهن عندما يرد ذكر رومانيا هو اسم الرئيس نيكولاي تشاوشيسكو، الذي حكمها من عام 1974 وحتى عام 1989؟
الجواب عند الرومانيين هو أن «هنري كواندا» أضاف لاسم رومانيا مجداً لا ينساه أبناء الشعب الروماني، فقد كان طياراً وعالماً ومخترعاً ورائداً في علم الإيروديناميكا. بنى أول طائرة نفاثة في العالم سُجِّلت باسمه «كواندا 1910»، وعُرِضت أول مرة في باريس، وله نظريات عدة عن حركة الأجسام في الهواء والديناميك، كما له اختراعات عدة في علم الطيران.
أما نيكولاي تشاوشيسكو فكان ديكتاتوراً، أصبحت رومانيا في عهده أكثر بلاد أوروبا فقراً، وأصبح الحصول فيها على الحاجات الأساسية للشعب أمراً صعباً يتطلب الكثير من العناء، ووصلت سياسته في التقشف إلى درجة تقنين الخبز، حيث تم تخصيص حصة يومية تُقدَّر بنصف رغيف لكل مواطن، رغم أن رومانيا غنية بمواردها الطبيعية والزراعية، إلا أن هذه الموارد كانت تُصدَّر إلى الخارج لتسديد ديون البلاد التي تراكمت بسبب مشروعات البناء الضخمة التي قام بها تشاوشيسكو، وغيّر من خلالها ملامح بوخارست تماماً، بينما كان الشعب لا يجد ما يأكله.
ومن أبرز هذه المشروعات مبنى «بيت الشعب» الذي هُدمت من أجله منازل كثيرة، ليصبح ثاني أكبر مبني بعد البنتاغون وأغلى مبنى إداري في العالم، حيث بلغت تكلفة بنائه ملياري جنيه إسترليني وقتها! كما تحولت رومانيا في عهد تشاوشيسكو إلى دولة بوليسية تذكرنا برواية «1984» الشهيرة لجورج أورويل، بعد أن غدا جهاز الشرطة السري «السيكوريتاتي» يتحكم في كل شيء، وأصبح جواسيسه ينتشرون في كل شبر من أرض رومانيا بحثاً عمّن تسول له نفسه أن يتمرد أو يعارض، فمن لا يمتدح النظام، أو يطلق نكتة تشير للنظام من قريب أو من بعيد، يعتبر معارضاً من الدرجة الأولى يشكل تهديداً للنظام. وتم في عهده تكميم الأفواه، وفرض رقابة صارمة على وسائل الإعلام.
في ظل هذا الوضع كان لا بد أن تأتي لحظة ينفجر فيها الشعب ليعبر عن غضبه. وقد جاء الانفجار في شهر ديسمبر من عام 1989 في مدينة تيميسوارا غرب رومانيا، ثم وصل إلى العاصمة بوخارست، ومن ثم إلى رومانيا كلها.
ولأن الديكتاتور يعتقد أن الشعب بين أصبعين من أصابعه، فقد خرج تشاوشيسكو إلى جموع المتظاهرين، الذين توجهوا إلى القصر الرئاسي مطالبين بإسقاطه، ووجه لهم خطاباً عاطفياً واعداً إياهم بالتغيير، لكن الشعب كان قد تجاوز مرحلة الخوف، ولم يعد يصدق الوعود الوردية التي يلجأ إليها الطغاة عندما تحين لحظة سقوطهم، فلم يجد تشاوشيسكو وسيلة سوى الهرب هو وزوجته إيلينا، التي يؤكد الكثيرون أنها كانت المحرك الأساسي له، فاستقلا طائرة هليكوبتر إلى جهة غير معروفة، لكن بعض المزارعين تمكنوا من الوصول إلى مكانهما، وقاموا بتسليمهما إلى الشرطة، حيث عُقدت لهما محكمة عسكرية خاصة وسريعة في الخامس والعشرين من شهر ديسمبر 1989، وتمت إدانتهما بتهمة الإبادة الجماعية وتخريب الاقتصاد الروماني، وجرى تنفيذ حكم الإعدام رمياً بالرصاص فيهما أمام عدسات كاميرات التلفزيون، كي يتأكد الشعب الروماني من زوال الطاغية.
ولأن حياة الطغاة وموتهم كثيراً ما يرتبطان بالأساطير، فقد شكك البعض في مشهد إعدام تشاوشيسكو وإيلينا، واعتبروه مشهداً تمثيلياً. لذلك تم عام 2010 استخراج جثتيهما، وأخذت منهما عينات أجريت عليها اختبارات DNA تم التأكد من خلالها أن الجثتين للديكتاتور وزوجته.
واليوم عندما تطأ قدما أي زائر لرومانيا مطار عاصمتها تصافح عيناه اسم عالم رومانيا هنري كواندا، أما تشاوشيسكو الذي جعلها في الحضيض من أجل بناء مجده الشخصي فلم يعد سوى نقطة سوداء في تاريخها.
ورغم أن آخر كلمات تفوه بها تشاوشيسكو قبل إعدامه كانت «سوف ينتقم لي التاريخ»، إلا أن التاريخ انحاز إلى شعب رومانيا الذي أعاد العربة إلى مسارها الصحيح، ولم ينحز إلى الديكتاتور الذي قاد العربة بغرور أودى به إلى حتفه، فبقي الشعب ولم يعد للديكتاتور أثر.
المصدر: البيان