كاتبة سعودية
على الرغم من غياب المدارس الرسمية التي تعلم الفنون بأنواعها لسنوات طويلة في بلدنا، إلا أن المخلوق الجميل «الإنسان» استطاع أن يصنع لها وجودا وهوية رغم تجاهل وتهميش كثيرين لأهميتها في حياتنا، ومع ذلك تزخر بلدي بعدد كبير من النجوم التي لم تُمنح الفرصة والمساحة الكافية لتسطع ويراها الجميع مثل نجم الكرة الذي مُنح نصيب الأسد من التشجيع. افتتح الأسبوع الماضي المعرض الفني لاود آرت (الفن الصاخب) في قاعة تراث الصحراء بالخبر الذي سيستمر إلى 7 يونيو، بالتعاون مع عدد من الشركات المنظمة مثل شركة (ان تي أي) المحلية ونقاط وروابي وآخرين، امتلأت أروقة المعرض بأعمال 37 فنانا وفنانة من داخل وخارج المملكة لتحتار أيهم أقرب في تعبيره عن (الصدمة الحضارية) التي كانت شعار المعرض هذه السنة. ولن تكفي مساحة المقال لإلقاء شيء من الضوء على جمال المتحف في الطابق الأرضي، ولنصعد للطابق العلوي مباشرة حيث تستقبلك فوق درجات السلم لوحات لوجوه تدفعك إلى التبسم للفنانة نورة كريم، التي أطلقت مشروع «دمنا خفيف»، لتقول لمن يعتقد أن العرب يرتدون تكشيرة دائمة على وجوههم، بأن العربي ليس إنسانا جاداً أو عبوساً، بل يتمتع بخفة ظل لا تقلل من قيمته ولا تلغي طموحاته. وفي منتصف القاعة يلفت نظرك عمل هيثم الدهام المثير للجدل (السماء تمطر رجالا) حيث يتدلى أكثر من (عِقال) في صورة رمزية تُصور كيف يعيش نصف المجتمع تحت سطوة عالم الرجال. وفي الجانب المقابل تعبر ديالا نورالدين في لوحتها الثلاثية عن تراث أزمنة رسمتها من الماضي، لتؤكد أن القديم مع الوقت سيصبح ذهباً و لن تقل قيمته مع مرور الوقت. وتتسلسل لوحات أماني السعد برشاقة على الجانب الآخر كالشريط السينمائي، لتقدم رسالة مباشرة عن مشكلة محاكمة الناس على المظهر من أول لمحة دون معرفة حقيقة الإنسان قبل الحكم عليه. ومن العاصمة عبر الشاب فيصل أحمد في لوحاته عن تأثير الصدمة الحضارية على بعض الأفراد حين تتغير بيئتهم، فيتجهون إلى كل ما كان محظورا في بيئتهم الأصلية، حيث ركز في لوحاته على الفن الرقمي للتعبير. وأضافت لهذا الفن الصاخب لوحات يوسف الأحمد الذي أتى من سان فرانسيسكو ليُشارك بأعمالٍ تبرز جمال الألوان في كسر الجمود النمطي، وما إن تنتقل إلى الرواق الصغير في الجهة الأخرى من المعرض، حتي تدرك أنه يحتوي على أعمال أنيقة جذابة. ففي أحد الجوانب تجلس الفنانة الصغيرة كنوز العتيبي ترسم أمامك خطوطاً رائعة على قمصان قطنية بأناملها الحريرية، لتصنع بلمساتها إضافة على جمال الخط العربي، وما إن ترفع عينيك عن طاولتها حتى تجذب انتباهك لوحات لشابة جميلة مها الضوي التي شاركت بمجموعة جذابة وغير تقليدية من الأكواب الطويلة التي تحمل كل واحدة داخلها لوحة فنية مختلفة تحكي قصصا تراثية من الصحراء، لتضعها في متناول يدك، لديها لمسة موفقة في انتقاء الأفكار وتمكُن لرسم حتى مزاجك الشخصي. ولابد أن تخطف نظرك شخصيات وافي القرني المميزة، التي زينت قمصان وبطاقات وعلامات للكتب بشكل جذاب يدفعك لاقتناء أكثر من واحدة والعودة مرارا وتكرارا للاستمتاع بأشكالها.
ويُعد تراث الصحراء في الخبر المعرض الرسمي الوحيد، الذي تمكن من صنع مكان وهوية للتراث والفن العربي في المنطقة الشرقية طوال الـ 23 سنة الماضية، فقد تأسس أثناء حرب الخليج كمحل صغير داخل الخبر القديمة، اعتاد آنذاك الأجانب على زيارته لاقتناء جزء من سحر الشرق في هدايا وتحف تذكارية، قبل أن يتخذ موقعه الحالي على طريق الخبر الظهران. ويُدار المعرض من قبل أُسرة سعودية فنية، تُشعِرُك بالألفة حين تتجول بداخله وكأنك فرد من العائلة، حيث حرصت أسرة السيد فريد بخاري وزوجته الفنانة قمر أحمد وابنته الآنسة رنين على انتقاء وشراء القطع التراثية الفنية من عدة بلدان في الشرق الأوسط من أجل ضمان استمرار هوية التراث العربي الغني بالجمال والألوان، وأصبح من الواجب علينا أن نحافظ عليها من الانقراض وسط هذا الزخم الهائل من التكنولوجيا، وليس ذلك فقط بل احتضن تراثَ الصحراء أبناؤنا في رحلات خاصة قامت بها بعض المدارس الأهلية للخروج عن النمطية وتعزيزا لثقافة الرحلات المدرسية، لتعرفهم بمتعة القراءة والفن الراقي، في بيئة جميلة آمنة مليئة بالألوان المبهجة والأفكار المبتكرة.
في الوقت الذي قامت فيه السياسة بإحداث كثير من الفوضى حولنا، أتت الأعمال الفنية لتعبر بهدوء عن مفهوم الصدمة الحضارية، ومنحتنا وقتاً مستقطعاً لنستوعب المرحلة التي نعيشها، ربما لم يسنح الوقت بلقاء جميع الفنانين والفنانات والمنظمين وسط ذلك الجمال الصاخب، ولكن ليثق جميع المبدعين بأن ما قدموه لنا كجمهور أحدث بالفعل قليلاً من الضجة التي عرفتنا بأنهم هنا.
المصدر: الشرق