ليس باسمنا

آراء

خاص لـ هات بوست: 

في متحف دمشق الوطني توجد منحوتة ضخمة لأسد نقلت من معبد بل في تدمر، نقش عليها بالآرامية منذ مئات السنين: “تبارك اللات كل من لا يسفك دماً”.

قبل أن تعرف بلادنا الأديان السماوية عرفنا أن “دم السوري على السوري حرام”، لكن يبدو أن بعضنا ينسى.

يحدث أن يقتتل الناس فيما بينهم، خلافاً على نفوذ أو أراض أو مصالح عامة، لطالما كانت الحروب عبر التاريخ كذلك، رغم أن معظمها كان فيه طرف أكثر قوة وجبروت من الآخر، ظالم ومظلوم لا يتساوون في الدرجة، لكن أقسى الحروب تلك هي الأهلية، بين أفراد الشعب الواحد، الإخوة حتى إشعار آخر، إشعار ما يلبث أن يأتي ليشعل جمراً ظنناه مطفأً فيما هو مختبىء تحت الرماد، فما بالكم إن كان ذاك الإشعار يحمل اسم الله؟

إذا كنا نحن البشر نتبرأ ممن يقتل باسمنا وتحت راية انتماءاتنا، دينية أم قومية أم وطنية، فما بالكم بالله الرؤوف الرحيم؟ كيف لأحد تصديق أن قتل عائلات بأكملها سيرضي الله؟ أو تفجير أحدهم نفسه بمصلين في كنيسة سيرضي الله، أو قتل عجوز أعزل خرج ليحضر خبزاً، قتله بسبب انتمائه الطائفي سيرضي الله؟ أو حرق منازل بمن فيها؟ ستتعالى الأصوات أن هؤلاء لا يمثلون الإسلام وهم مدسوسون لتشويهه.

ربما لا يحتاج القاتل لسبب، فكثير من القتلة لم يعنهم تبرير جرائمهم حتى أمام أنفسهم، لكن علينا الاعتراف أن تجييشاً يستثمر في الدين يلقى عوائد كبيرة، مريعة من حيث النتائج، فمن السهولة بمكان أن تجعل شاباً صغيراً مستعداً للقتل إذا ما وجهته أن العدو كافر يستحق الموت، وهذا هو عين الجهاد الذي أمر الله به، وطريقه إلى الجنة، وبالتالي يمكنه أن يسأل من أمامه عن مذهبه ويرديه قتيلاً باسم الله دون أن يرف له جفن.

أسئلة كثيرة تلقي بنفسها هنا، أولها: أين الخلل؟ هل الله تعالى أمرنا بقتل كل من نجده كافراً؟ من هو المؤمن ومن هو الكافر؟ من يحق له الفصل بينهما؟ هل نحن في زمن دار الإيمان ودار الكفر؟ ما هو حكم الله؟ أين القوانين من كل ذلك؟

قد نجد أن الأجوبة بديهية، لكن ما يجري عند كل منعطف يضعنا أمام إعادة تفسير المفسر، فأنت معني بشكل أو بآخر للقول ليس باسمنا، لا تقتلوا باسمي أنى كنتم.

كإنسان يعيش على هذه الأرض عليّ ألا أقبل الظلم ولا القتل تحت أي مبرر، وكسورية أريد لجميع السوريين أن يتشاركوا في بناء وطنهم، والظالم أرجو له العقاب الذي يستحقه بموجب محاكمة عادلة ترضي المظلومين، أما كمسلمة فالمسؤولية أمام الله تحتم علي أن أستهجن ما يرتكب باسم الإسلام، فالرسالة التي جاء بها رسولنا محمد (ص) رسالة رحمة للعالمين، لا لأبناء أرض بعينها {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء 107)، وإذا كان القتل محرم منذ العهود الأولى للإنسانية فما بالنا بالنسبة للرسالة الخاتم؟ وها هو مثال إبن آدم الذي عرضه لنا التنزيل الحكيم ليكون درساً نعتبر منه: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (المائدة 28)، ليأتي بعد ذلك تحريم قتل النفس بشكل واضح لا لبس فيه {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (المائدة 32)، ألم تسمعوا بهذه الآيات قبل أن تحملوا البنادق في وجه إخوتكم؟ رب قائلٍ لقد قرأنا آية السيف {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} (التوبة 5) فقتلنا المشركين!

لكن كثير من آيات المصحف تخص ظروفاً وأحداثاً معينة لها شروطها الموضوعية، كغزوة تبوك التي تتعلق بها سورة التوبة مثلاً، حيث كان المشركين أعداء للرسول وأتباعه، وهناك قتال جار بين طرفين، لا أن تستوقف “مشرك” وتختبر إيمانه ثم تقتله، بل على العكس، مطلوب منك أن تبلغه مأمنه، والكلام ليس من عندي، بل كلام الله عز وجل في السورة ذاتها والآية التي تلي السابقة مباشرة: {وإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ}(التوبة 6).

فإذا كان “المشرك” واضح في ذاك الزمان، فهل أنت مؤهل اليوم لتحديد من هو مؤمن ومن هو مشرك ومن هو كافر؟ هل أنت يا من تحرم الموسيقى وتحلل قتل الأبرياء موكل عن الله تعالى لتقيّم دين الناس؟ وهو القائل جل جلاله {ِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج 17)! لا يسعنا كمسلمين إلا أن نتبرأ منكم ونستغفر ربنا ونقول ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء، لكنهم ليسوا منا.

نطمح نحن السوريون لبناء دولة مدنية فيها الناس متساوون بالحقوق والواجبات، يحكمها القانون، فيها مرجعية أخلاقية تأخذ بالاعتبار ما حرّم الله، فلا تسمح بعقوق الوالدين ولا أكل مال اليتامى ولا الغش ولا قتل النفس ولا ارتكاب الفواحش، ولا تخضع بالتالي لآراء من هنا وهناك، لا فتاوى من عصور قديمة ولا حديثة، دولة مؤسسات فيها المسؤوليات واضحة، يشارك في صنع القرار فيها كل المواطنين على اختلاف انتماءاتهم العرقية والدينية، إنما اليوم بات سقف طموحاتنا ألا تسفك الدماء باسمنا في أي بقعة من سورية.