محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت
العيب هو في خيانة الأوطان تحت شعارات ملفقة، في أغلبها آيديولوجية، وليس أن يحب الناس أوطانهم، فذلك إنساني وطبيعي. حولنا في هذا العالم العربي الذي نعيش كثير من ذلك التلفيق، وجب كشفه، وهو خيانة الوطن من أجل إعلاء مصالح وطن آخر، وعلى حساب أغلبية المواطنين. في الذهن أولاً، وليس كلياً، ما يحدث في العراق، فقد خرج العراقيون في مظاهرات تحت شعار غير مسبوق «من قتلني؟» جراء الاغتيالات المنظمة لناشطين عراقيين، كل مطالبهم أن يعيشوا في بلد «حُر ومستقل»، فالأرجح أن تتم إحالة المتسائلين إلى إخوانهم في لبنان الذين يعرفون الإجابة منذ مقتل رفيق الحريري إلى مقتل لقمان سليم، مروراً بعدد كبير من المغدورين اللبنانيين، الذين أصبحت معلومات من قتلهم متاحة، فمن قتل هؤلاء في لبنان هم من قتل الناشطين في العراق، ليس بأفرادهم، ولكن بكُنه المحرضين لإسكات الأصوات التي تطالب بالتحرر من نفوذه، وسوف يستمر الاغتيال في العراق. الفاعل جماعات عربية استحوذت على إرادتها القوى القابضة على القرار في طهران، وسخرتها للخروج بالسلاح، ليس عن مواطنيها، ولكن أيضاً عن وطنها. من الواضح أن تلك القوى في طهران تقرأ ما تريد أن تقرأ، في صيرورة الوعي الشعبي للبلدان العربية، وهي قراءة مختلة، سواء في اليمن أو لبنان أو سوريا أو العراق، يمكن أن تغري البعض أو تأخذهم إلى أماكن التعارض مع أوطانهم، رغبة منهم في النفوذ أو المصالح، ولكن المؤكد أنها لا تقرأ ماذا تعني الهوية الوطنية اللبنانية أو اليمنية أو العراقية!
إن بقينا في العراق للنظر إلى الهوية العراقية، يواجهنا كثير من التأكيدات التاريخية على تأصيل تلك الهوية الثقافية العراقية وعمقها. بعض الأمثلة، لقد حكم حزب آيديولوجي واحد كلاً من سوريا والعراق، وهو حزب البعث العربي الاشتراكي، وكان الشعار الأعلى له «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»، إلا أن الهوية المتأصلة لكلا البلدين فرضت عدم اللقاء، وبرر ذلك بتبريرات مختلفة، معظمها سطحي، إلا أن الحقيقة أن الهوية الوطنية لم تكن قابلة للذوبان أو التخطي، فكان بين «البعث السوري» و«البعث العراقي» من الشقاق ما يفوق أي شقاق آخر، بل الأقدم من هذا المثال ما نقله أبو القومية العربية الأقدم، ساطع الحصري، الذي كتب «مذكراتي في العراق»، قال: «بعد الاستعانة في أول عصر الملكية العراقية بمدرسين من سوريا، احتج المدرسون العراقيون، وكان شعار احتجاجهم (نعم للوحدة… لا للتوظيف)»! في مفارقة لافتة، وهناك كثير من الأمثلة في أكثر من مكان. الفكرة أن الدولة الوطنية العربية كما تطور وضعها بعد الحرب العالمية الأولى، كانت ضنينة على الاندماج في كيان آخر، كما في لبنان؛ حيث خاضت القوى المختلفة صراعاً معروفاً وحاسماً بين «الاندماج أو البقاء في لبنان الكبير» كما سمي، واختارت النخب بعد ذلك «الاستقلال الناجز» للبنان، وقاومت كل أشكال الهيمنة بوضوح أو تحت ستار، ولكنها الهوية اللبنانية التي بقيت نابضة، هذا ما حصل بين مصر وسوريا، فقد كانت وحدة مؤقتة، برر فشلها بتبريرات مختلفة، ولكن في القاع من تلك العملية هو «الهوية المصرية» من جهة و«الهوية السورية» من جهة أخرى حتى للفلسطينيين عند إصرارهم على دولة خارج الدولة الأردنية التي تشكلت بعد الحرب الأولى هو تفرد الهوية!
نعود إلى ملفنا الأساس، فعلى الرغم مما يربط العرب فيما بينهم، يمكن التنسيق في السياسات، ويمكن مزامنة المصالح، ولكن من الواضح التاريخي أن «الذوبان» في كيان مختلف من الصعوبة بمكان، ويكاد من المستحيل تحقيقه. فالقراءة السياسية من الجانب الإيراني للساحة العربية بشكل عام هي قراءة تحمل كثيراً من الوهم وغير قادرة على تمرير مجمل أجندتها، وغير قادرة على فرض «شكل من الحكم كمثل ولاية الفقيه»، فطائفة كبيرة من الشيعية العربية ترى أن للفقيه ولاية خاصة، وليس ولاية عامة، أي سياسية، وما تتعامل معه من قوى في العراق من الصعب أن يسود، فلا ولاية فقيه ممكنة، ولا التنازل عن الهوية العراقية العربية أيضاً ممكن، المتاح هو المشاغبة تحت عنوان «خروج الأجنبي» ومحاربة «داعش»، وتسليح البعض بالسلاح والمال، ومن ثم إشاعة الرعب في أوساط بعينها من أجل القبول أو غض الطرف عن التغلغل الإيراني في العراق، وكلها حجج ظرفية ومؤقتة، حتى لو حصنت «جرف الصخر» المعسكر الميليشياوي في جنوب بغداد. أحد التبريرات الأساس التي يردها نظام طهران في التدخل في الجوار «أنها تحارب هناك حتى لا تحارب على الأرض الإيرانية» في تخطي حقيقة مهمة، والقائلة: «لا أمن لأحد إذا لم يكن الجميع آمناً». واستمرار الاضطراب في الجوار، بجانب أنه إفقار للشعوب إلى حد المجاعة، وانشقاق رأسي للمجتمعات، يؤسس لأشكال من ردّات الفعل، فلن يغيب عن الجمهور في تلك البلدان الموبوءة أن الجارة إيران تحاول جاهدة تلبيس عميان العقول العمائم!
ليس لأجندة إيران في المنطقة أفق الاستمرار، فهي لم تستطع أن تتغلب على تلك الهوايات العربية المحلية، ولا الزمن هو مساعد لها في ذلك. طبعاً من الصعب في الظروف القائمة في إيران، وما تتخذه من سياسات تحمل كثيراً من الأوهام أن يتوقع أحد «استدارة» ما في السياسة العامة تجاه الجوار، بل العكس هو الصحيح. ومما نشاهده من استخدام القوة الناعمة في التضليل والاستفادة القصوى من الفرص المتاحة في تعميق الكراهية متى ما توفرت الإمكانات، تصفية أشخاص وإرهاب غيرهم، أو الادعاء بالدفاع عن مسلمات عربية، كما حدث في اشتباك غزة الأخير في فلسطين. استمرار سياسات طهران في الجوار، تتجاوز فكرة أن يحب الناس أوطانهم. والتابعون لها يمكن أن يسيروا وراءها، ولكنهم في النهاية سوف يواجهون بقوة الهوية الوطنية التي تنهي المشروع بكامله، لأنهم ببساطة لا يستطيعون أن يغتالوا كل الشعب!
آخر الكلام…
في كل الدول التي تتدخل فيها إيران، تفقد مجتمعاتها الأمان والأمل، مع انسداد أفق المستقبل.
المصدر: الشرق الأوسط