كاتب سعودي؛ كان سفيراً لبلاده في منظمة اليونسكو
بتنا نخجل من ترديد القول أن أعداء الإسلام يسعون لتمزيق المسلمين، ليس لأنهم لا يسعون، ولكن لأنه يوجد من أهل الإسلام من يسعى لتمزيق المسلمين أكثر من سعي الأعداء!
في العام ٢٠١٤ أصدرتُ كتاباً تحذيرياً عما ستؤول إليه مجتمعاتنا وأوطاننا من تشظيّات وانقسامات خلال السنوات القليلة المقبلة، فوق ما كانت عليه حالنا خلال الخمسين سنة الماضية، وجعلتُ الكتاب تحت عنوان: (حروب الهُويّات الصغرى). ويؤسفني أن التحذير الاستباقي الذي أطلقه الكتاب قد بدأ يقع ويتحقق بالفعل، فحروب الهويّات في منطقتنا يتوالى اشتعالها يوماً بعد آخر، من دون أن نتحرك لإخماد هذه الحرائق قبل تعمّمها، بل ربما تَحرّك بعضنا للمساهمة في ازدياد اشتعالها.
وقد جاء كتابي ذلك تفصيلاً لمقالتي التي نشرتها في العام ٢٠١٢ تحت عنوان: («السلفية»… هل هذا وقتها؟)، والتي كان لها صدىً كبير حينذاك، ما زلت أذوق طعمه الحلو والمرّ حتى اليوم!
كتبتُ ذلك المقال استياءً من عقد إحدى الجامعات السعودية مؤتمراً جعلتْ عنوانه: (السلفية… منهج شرعي ومطلب وطني)، ومما قلت في ذلك المقال النقدي: «إن الوقوع في شَرَك التحوّل من الدوائر الكبرى إلى الدوائر الصغرى هو فخّ لا نهائي، فداخل كل دائرة صغرى هناك دوائر أصغر منها، وهكذا يستمر التشظّي والتضاؤل»، و»إن النبرة الحزبية الخفيّة أو المستترة في نقاشات وتوصيات الندوة لا تنبئ عن الهدف النبيل بتصفية الإسلام وتنقيته، بل هي تكريس لمزيد من الحزبية الإقصائية، التي تجعل السلفية في التوصيات شعاراًَ طاغياًَ يكاد يعلو فوق الإسلام».
ولأن لكل فعل رد فعل معاكساً له في الاتجاه، بحسب قانون الفيزياء، لكن يفوقه قوةً بحسب قانون الأيديولوجيا، فقد انعقد، الأسبوع الماضي، مؤتمر مثير للحيرة والتساؤلات والضحك الموجع، في العاصمة الشيشانية غروزني، تحت عنوان: (من هم أهل السنة والجماعة؟). كان واضحاً من البيان الختامي والتوصيات أن الهدف من المؤتمر هو إقصاء (السلفية) من التعريف «الاحتكاري» الذي اشتهاه المؤتمرون لحصر أهل السنّة والجماعة، إذ خلص المؤتمر في أهم توصياته إلى أن: «أهل السنة والجماعة هم الأشاعرة والماتريدية في الاعتقاد، وأهل المذاهب الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والمعتدلون من الحنابلة في الفقه، وأهل التصوف الصافي علماً وأخلاقاً وتزكيةً على طريقة سيد الطائفة الإمام الجنيد ومن سار على نهجه من أئمة الهدى»!
وبما أن بيان المؤتمر يؤكد في عبارة أخرى أن أهل السنّة والجماعة هم أهل الحق الذين يمثلون صورة الإسلام الصحيحة، فإن المسلمين حقاً وحصراً، بحسب توصيات المؤتمر، هم الذين يتّبعون الإمام الأشعري والإمام الماتريدي والإمام الجنيد، لا الذين يتّبعون عموم رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الذين سمَّاهم الله سبحانه: المسلمين، (هو سَمَّاكُم المسلمين)، ولم يسمّهم السنّيين أو السلفيين أو الأشاعرة أو المتصوّفة.
والعجيب أنه مع هذا التصنيف الاحتكاري البشع، فإن المؤتمر يزعم أن هدفه هو «التوقّف عن الجدال والتنظير وعن الانشغال بصغائر الأمور والقضايا لتفويت الفرصة على الجماعات الإرهابية التي تستغل ذلك لصياغة مناهجها التدميرية». و(يحذّر) المؤتمرون من «أن هناك بعض القوى الإقليمية والدولية تحاول خلق صراعات طائفية ومذهبية في الدول العربية والإسلامية لخدمة أعداء الأمة ومصالحها الضيقة».
هكذا إذاً… «قوى إقليمية ودولية» يا حكماء المسلمين؟!
يعلم المؤتمرون الأجلاّء أن وحدة الإسلام ظلت ماثلة أمام مراقبيها حتى بعد الفتنة الكبرى وانقسام المسلمين إلى سنّة وشيعة. وانقسم لاحقاً أهل السنّة إلى فرق ومدارس كالأشاعرة والمعتزلة والماتريدية والجهمية والسلفية والصوفية، لكنها كانت تقسيمات علمية أكثر منها شعبية، إلا أذا أراد السياسي إشهارها وتوظيفها، كما فعل الخليفة المأمون مع المعتزلة لسنوات محدودة ثم عادت لُحمة المسلمين من جديد، حتى جاءت الثورة الإيرانية قبل أربعة عقود، ليفعّل السياسي من جديد مصالحه في التشتيت والانقسام المُفاصِل بين السنّة والشيعة. والآن كأنه قد حان أوان تقسيم أهل السنّة، بفعل السياسي ورغبته أيضاً، وليس بنقاشات وجدالات العلماء الذين لا تتجاوز أصواتُهم المشرذمة أسوارَ قاعات المدارس والمساجد إلى عموم المسلمين/ المسالمين.
لن أتناول هنا الدوافع والخلفيات السياسية التي تَسرّب أنها تقف خلف تنظيم وتمويل هذا المؤتمر (الشيشاني)، إذ تندرج تحت هذا التأويل سلسلة من الأحداث المتوالية والوقائع المترابطة التي سيجيد تناولها غيري، لكني أتساءل إن كنّا في صدد الانتقال من مرحلة ما سُمِّي بـ (الإسلام الأميركاني) إلى مرحلة (الإسلام الروسي)، بالتنسيق والتراضي بين (الشيخين) الأميركي والروسي؟!
أما قول منظمي المؤتمر أن هدفهم: «جمع كلمة أهل السنّة»، فقد تبيّن لهم نتاج عملهم ومؤتمرهم في الغضب العارم الذي يغشى الآن وسائل الإعلام التقليدي والجديد، مطارداً النتائج الإقصائية للمؤتمر ومناكفاً لها… فأيّ جمعٍ للكلمة هذا؟!
منطقتنا وشعوبنا في وضع بالغ الخطورة والحرج، فهي تتعرض للطعن من الأمام والخلف، ومن الداخل والخارج، وباسم الدين وباسم الوطن، وبأدوات التاريخ والجغرافيا، فالله المستعان.
المصدر: الحياة