كاتب لبناني
لا نعرف أي مئوية سوف تبدأ مع هذا العام. ما نعرفه عن المئوية التي انتهت، مريع. شاب يُطلق النار على أرشيدوق النمسا فرانز فرديناند في ساراييفو، 28 حزيران 1914، فإذا هي رصاصة الانطلاق: تحوّل العالم برمَّته إلى مطحنة بشر. إذا أردت أن تُحصي أهم أحداث القرن الذي انتهى، يجب أن تبحث في سجلات الجحيم. هذا العالم يتغيّر كل خمس دقائق، قال ريزارد كابوشنسكي، أهم مراسلي العصر. دعك من أرنست همنغواي ومن جورج أورويل في باريس أو الحرب الأهلية الإسبانية. لم يلتقط أحد روح القرن الماضي، مثل ذلك البولوني الذي جعل الرسالة الصحافية أهم من الرواية الكبرى. كأن تقول مارسيل بروست الصحافة، التي منها تدرَّج الروائيّون الكبار في أي حال، همنغواي، غبريال غارسيا ماركيز، ديكنز، وصفٍّ طويل قد يَعنيك أن تضع فيه أمين معلوف. وقد لا تعرف أن المحرر الشاب في “النهار” هذا، كان أحد آخر المراسلين الذين شهدوا آخر أيام سايغون. سألته يومها، لماذا لم تنتظر أكثر؟ قال، متلعثماً بنفسه كالعادة: خفتُ.
كان هذا قرن الخوف الأكبر. حربان عالميتان، وهذه الأسماء: موسوليني، هتلر، ستالين، ماو تسي تونغ، بول بوت، فرانكو، هاري ترومان، تشان كاي تشيك. ما بين محاولات هؤلاء السادة لإنقاذ العالم وإعادة بنائه، قُتل عشرات الملايين من البشر. ما بين القتَلَة في اليسار والقتَلَة في اليمين، انتقل هولاكو سعيداً من القرون الوسطى إلى ما بعد الحداثة.
كما كان هذا الكوكب في كل قرون سابقة، انقسم قسمين متوازيين غير متساويين: العلم والقتل. المعرفة والغور في الجهل. قضت النظافة وتطوير أساليب الصرف الصحي على كثير من الأوبئة، استبدلها الإنسان بأوبئة من ذاته، كالإيدز. لكنه القرن الذي اخترع فيه الإنسان البنسيلين، الذي يقول الشاعر بولس سلامة وهو يروي قصة 24 عملية في “مذكرات ريح”، انه لولا وصول البنسيلين إلى مستشفى الدكتور جورج بدر في الحمراء، لكان قضى من العملية الثانية عشرة.
تحوّلات لا نهاية لها. ما بين 1961 و1989، عرفت، كصحافي، ثلاث برلينات لا أصدِّق متغيّراتها: برلين الغربية التي يهدّد حصارها بنشوب حرب عالمية ثالثة في أي لحظة، وبرلين الجدار الذي أقامه خروشوف لمنع الشرقيين من الفرار إلى فُلاة الغرب، وبرلين التي أصبحت رمزاً لسقوط آخر جدار إيديولوجي في الأرض، ومقدمة لإنزال راية المنجل والمطرقة عن قبّة الكرملين.
عندما كنت أجول في أوروبا الشرقية، لم يكن يخطر، إن يخطر لي، أن هذه البلدان سوف تعرف الحرية ذات يوم. يمشي العالم. يمشي وينقلب. أحياناً على ظهره، أحياناً على وجهه. يظهر ماو في الصين ويرمي 30 مليوناً على جانبَي “المسيرة الطويلة” ولكن يظهر في الهند المجاورة غاندي، ويعطي 300 مليون الحرية. يظهر الطبيب دوفالييه بابادوك في هايتي فيملؤها فقراً وقهراً وعبودية، ويظهر لي كوان يو في مستنقعات سنغافورة فيحوّلها نموذجا في البناء لا سابقة له. قال نابوليون، الإمبراطور الذي أذلَّه العشق، فتِّش عن المرأة. الحقيقة، فتِّش عن الرجل.
هذا كوكبه. واحد يبني وألف يدمِّرون. قرن من جنونهم. عشرون ألف قتيل في هندوراس بسبب كرة قدم. 800 ألف قتيل في رواندا حرّضهم رجل إيطالي من الإذاعة المحلية. الحرب على الميثاق الوطني كلّفت 200 ألف قتيل لإسقاط المارونية السياسيَّة التي كانت تهوي من تلقاء نفسها في أي حال. أُعطيت جوهرة الشرق، فلم تعرف معنى أن تُعطى جوهرة. قبل لبنان ضاعت فلسطين. باسمها قام نظام عربي يدَّعي الثورة فأضاع بقية الأرض وبقايا الكرامة وحوَّل الشعوب العربية عبيدا في مهازل كالتي دامت 40 عاماً في ليبيا. ملازم لم يتورَّع عن أن يفرش على صدره، يميناً ويساراً، أوسمة من جميع الألوان، وجميعها لا يعرف اسماءها.
في ظلّ الاستعمار كانت لدينا أنظمة ديموقراطية دستورية لها برلمانات. أزيلت هذه من أجل فرد أو حزب، لا يكون صاحب الدولة وحدها، بل “قائد المجتمع أيضاً”. 50 في المئة من العراقيين في الخارج. 50 في المئة من السوريين الآن مهجَّرون. الفلسطينيون لا يزالون ينتظرون العودة في مخيمات متوحّشة غير إنسانية. والمسيحية المشرقية التي كان رموزها فارس الخوري وقسطنطين زريق وبولس بطرس المعوشي والبابا شنودة ودُعاة الأمة الكبرى، تتوسّل الآن ملاجئ الأقليات. في بداية هذه المئوية إليك بعض من كانوا مسيحيي الشرق. سجِّل: جبران خليل جبران، بشارة خليل الخوري، مي زيادة، جرجي زيدان، فؤاد صروف، الأخوان تقلا صاحبا “الأهرام”، الأدب والشعر، المسرح والسينما، الصحافة والحريات، القانون والقضاء.
نقارن؟ رجاء، بلا مزاح. سار العام العربي في الاتجاه المعاكس: من سعد زغلول، أبي الأمة، ومصطفى النحاس، أبي الدستور وأمير النزاهة وعاشق مصر، إلى عشاق الذات. من انتصارات محمد علي وإبرهيم باشا إلى هزائم عبدالحكيم عامر. من أنوار الدكاترة طه حسين وعبدالرزاق السيد وعبدالرزاق السنهوري، ولويس عوض، وأنور عبدالملك، إلى الدكتور أيمن الظواهري. من طلعت حرب، مؤسس الاقتصاد الحديث في الشرق، إلى اقتصاد أحمد عزّ وجمال مبارك. من زينب الوكيل زوجة النحاس باشا، التي باعت سيارته لكي تشتري الدواء، إلى سوزان مبارك التي رأست جميع جمعيات مصر وأصرّت على أن يرِث ابنها أباه.
هنا، بلاد الكرب. في هذه الفترة تحوّلت أميركا اللاتينية من جوع وفقر وديكتاتوريات وجمهوريات موز، إلى ديموقراطيات مقبولة ونهضات إقتصادية. وخرجت آسيا من المستنقعات إلى العزّ: المجاعات صارت خلف الهند، والفقر صار خلف الصين، وأندونيسيا تنتعش. حيث هناك حرية وقانون، هناك تقدّم. حيث هناك ظلم هناك فساد بلا حدود وانهيار بلا قعر. القاعدة لا تخطئ، لأنها من وضع العقل. وحيث لا سيادة للعقل لا أمل في شيء. الدول المرتاحة في هذا العالم، أنظمة قائمة على المنطق، على بساطته وسهولته. بموجب هذا المنطق تُكرَّم مارغريت تاتشر، ابنة بقال فنشلي، كما كرِّمت الملكة فيكتوريا، لكن هذا لا يعطيها الحق في البقاء في 10 داوننغ ستريت يوماً إضافياً واحداً. بعد قرون من الحروب دخلت أوروبا عصر العقل. حدودها بلا مخافر، ولكن لن يعبر هتلر إلى بولونيا على رأس 1,8 مليون جندي و3 آلاف دبابة وقاذفات تهدم من الجو الجسور والطرق والبيوت.
لا نعرف شيئاً عن المئة الآتية. وقارئو بخت الدنيا على التلفزيون حصروا رؤيتهم، ويا للأسف، بزواريب بيروت. فمَن نحن لكي نغامر في أي توقُّع؟ نحن، أمضينا هذا العمر، نقرأ في الماضي. ومهما قرأتَ، عرفت شيئاً وغابت عنك أعاظم الأشياء. ولكن إذا قرأت في الماضي فعناوين الحاضر مخيفة. لا يزال الدم هو القاعدة، لا العقل ولا القانون ولا التجربة. أي أمثولة نريد مما أمامنا: الصين؟ أوروبا؟ أميركا اللاتينية؟
لا يمكن أن نتذكر مئة عام من غير أن نتذكّر بداياتها، يوم خرج محمد عبده من بلاد المصريين وجمال الدين الأفغاني من بلاد خيبر. عمامَتان فاضلتان تُبشِّران بقداسة الدين وغلاء الفرد وعظَمة الحياة ووجوب العيش المرتقي. بعد مئة عام الناس خلف الملا محمد عمر، في بلاد تورا بورا. لا نستطيع أن نعدكم بشي. عليكم بقارئي البخت على التلفزيون. نحن لا نزال في زمن “الله وحده هو الأعلم”.
المصدر: صحيفة النهار