عرفت الراحل العزيز محمد أبوعمير في منتصف الثمانينات من القرن الماضي وكنا طالبين في قسم الإعلام بجامعة الملك سعود. كان دوما برفقة رفيقه عطية الثبيتي. وكنت أنا مع مجموعة من الأصدقاء وخصوصا سلطان المهنا وحامد الحويماني. وكانت الجامعة آنذاك محطة مهمة يمر بها الجنوبي والشمالي، النجدي والحجازي، السني والشيعي، البدوي والحضري في ألفة وطنية مبهرة.
كتبت يوما في (الوطن) أنني أعدت اكتشاف وطني خلال دراستي الجامعية، ما بين الدرعية والرياض! كانت الجامعة محطة مهمة في تجربتنا الوطنية. بل كانت بالنسبة لي نافذة رأيت منها الطائف وحائل وعنيزة ونجران وعرعر وشقراء وسيهات. جئت من الجنوب فعرفت أكثر مما كنت أعرفه عن الجنوب. هناك عرفت عن قرب جنوبيا شهما كان فعلاً “الأخ الذي لم تلده أمي”. ومنذ الأيام الأولى التي عرفت فيها محمد أبو عمير وجدت فيه الأخ الذي يقدم مصلحة أخيه على مصلحته والصديق الذي لا تعكر صفو صداقته منافسة أو مصالح عابرة. عشنا أياما في الجامعة وخارجها بحلاوتها ومرارتها، نجاحاتها وإخفاقاتها. وكان “أبو سعيد” حاضرا في كل الأوقات، يبارك في كل مناسبة نجاح ويحفز على الوقوف مجددا عند الانكسار! في كل صداقاته كان صادقا وفيا أمينا حتى حينما أشغلته مسؤوليات المنصب عن أصدقائه. وكان حلقة الوصل مع أصدقاء مكانهم القلب وفي مقدمتهم “الإنسان” النبيل خالد السهيل والعزيز جابر القرني وغيرهما.
ذهبت للدراسة في أميركا وكنت في البدايات أصارع أشكالا شتى من التحديات وإذ بمحمد أبوعمير كعادته قريب من القلب، يتصل للاطمئنان ولشحذ الهمة والتخفيف من وطأة المتاعب والإحباطات. كان أبو عمير أخي في الاغتراب مثلما كان أخي في الحضور. احتفل بنجاحاتي ربما أكثر مما احتفلت أنا، يزعجه ما يزعجني، ويفرحه ما يفرحني. وكان في سؤاله وتواصله “خفيفا على القلب” لا يُلح في السؤال ولا يكسر الحواجز. وحينما فاجأه وفاجأنا مرضه بكيناه سرا وعلنا وكان هو من يهدئ من روعنا ويزرع فينا الأمل بالشفاء. كنت أتصل به من وقت لآخر أعاتبه على زحمة مشاغله وهو في أشد الحاجة للراحة والعلاج. لكن قلبه دوما كان معلقا بشغفه الكبير: عمله! أعرف عز المعرفة مدى إخلاصه وعمق محبته لمديره (وهو عنده بمثابة الأخ) وشغفه بالإنجاز والتطوير. عزيته في والده أياما قليلة قبل أن أعزي نفسي برحيله الحزين. فاجأني موته، وألجمني، فلم أعرف كيف أرثيه. أم أنني كنت أتهرب لكيلا أرثيه؟
أبكي فقدك أيها الوفي النبيل. ويزورني الحنين كثيرا لتلك الحوارات والحكايات وقصص مغامراتنا في الجامعة ومع الصحافة والكتابة والبحث عن نوافذ الضوء. أفتقد جلساتنا الطويلة وروح النكتة التي لم تفارقك كما أشتاق لتلك الضحكة المليئة بالحياة والتفاؤل. لكنني أعترف لك أنها تنتابني أحيانا هواجس أكاد فيها أغبطك على الرحيل المبكر قبل أن ترى الجنون الذي يهيمن على منطقتنا بعد رحيلك. أعرفك جيدا يا محمد فقلبك المتعب أصلا ما كان ليقوى على موجة الجنون والرعب والضياع الذي يجتاحنا منذ غادرتنا. عن ماذا أخبرك يا محمد بعد رحيلك؟ عن فئة باسم الله تكفر بالله وتقتل الأبرياء في المساجد والمدارس والبيوت؟ أم عن مسلسل الموت العبثي الذي يفتك بمنطقتنا؟ أو عن أحلام عبثية يظن أصحابها أنهم قادرون على جرنا كلنا إلى لعبة الموت التي أدمنوها؟ لم يفتك الكثير منذ رحلت يا صديقي فما نزال، منذ الزمن الذي عشته معنا، نلوك ذات الجدالات وندمن نفس التصنيفات ونمارس ذات الإقصاء.
ها قد رحلت بهدوء، كما أنت دائما، وها نحن نواجه فوضى صاخبة والحيرة تدب في قلوبنا وعقولنا: من أسس لها ومن يدبر أمرها وإلى أين تتجه مخالبها؟
رحلت يا محمد وترك رحيلك فينا، نحن أصدقاؤك ومحبيك، حسرة وندم على الأيام التي لم نرك أو نتواصل معك فيها. غادرتنا يا صديقي ولم تغادر ذاكرتي ضحكاتك وابتساماتك وسخريتك ووصاياك.
رحلت يا محمد لكنك حقا لم ترحل تماما، فرحيل الأصدقاء مثلك أشبه بالمستحيل.
المصدر: الوطن أون لاين