كاتب إماراتي
عندما كنتُ طالباً في الجامعة ذهبتُ إلى أحد المختصين في التطوير الذاتي ليساعدني في إلقاء الخُطب العامة في المناسبات؛ حيث كنتُ حريصاً على تمثيل الدولة في مختلف المحافل. وعندما بدأنا الحوار سألني عن مشكلتي، فقلتُ له إنني أشعر بتوتر عندما أقفُ للتحدث أمام الجمهور، فقال لي: «تخيل أنك تصعد الآن خشبة المسرح لتلقي كلمة، بماذا تشعر؟»
فقلتُ له إنني أشعر بالارتباك، ثم قال: «أنت الآن واقفٌ وستبدأ الحديث، ماذا يدور في خاطرك؟» فقلتُ له إنني خائفٌ من أن أقول شيئاً خطأً. فقال لي: «لقد أخطأتَ الآن، بماذا تشعر؟» فقلتُ له بالارتباك، فسألني: «وبعد الارتباك؟» فقلتُ إنني مُحرجٌ الآن جداً أمام الناس، فسألني: «وماذا بعد الإحراج؟» ظللتُ أفكر في سؤاله لأنه لم يخطر على بالي من قبل، فقلتُ له: «لا شيء!».
ابتسم وقال: «فعلاً، لا شيء.. الحياة لن تتوقف إن أخفقنا، ولن يتصدر خطؤك الصفحات الرئيسة أو نشرات الأخبار، بل إنني أشك أن أحداً من الحضور سينتبه له. أنتَ تحب هذا العمل، ولكن خوفك طغى على ذلك الحب. انتهى الأمر، يمكنك أن تنصرف الآن».
خرجتُ من عنده وأنا أفكّر، إلى هذه اللحظة، في مدى سذاجة الإنسان عندما لا تتعدى رؤيته حدود ضعفه، متناسياً أن قدراته لا حدود لها. وكلما همّني أمرٌ وتوقفتُ عند نتائجه السلبية، أو عند عدم استطاعتي تخطيه، تذكرتُ كلامه «الحياة لن تتوقف إن أخفقنا».
وقبل عدة سنوات حضرتُ دورة تدريبية لتنمية القدرات الفردية، وخلال أسبوع كاملٍ قضيته مع مدربة امتلأ رأسها بالشعر الأبيض والحكمة، تعلمتُ منها أشياء كثيرة كان أهمها أنها عرفتني على نفسي لأول مرة، وأظهرت لي كل الأشياء الدفينة التي كنت أتحاشاها دون أن أشعر. إلا أنها لم تقف على نقاط ضعفي كثيراً، بل ساعدتني على التعرف على مكامن القوة فيّ وكيف يمكنني أن أستثمرها لتطوير ذاتي. وفي آخر يوم قالت لي: «إن معظم الناس يبحثون عن نقاط ضعفهم لتقويتها، ومع مرور الزمن، ينسون تقوية نقاط قوتهم، حتى يتساوى لديهم الضعف والقوة، ويظل الإنسان عادياً لا يميزه شيء. إن أردتَ أن تتغير، ركز على تقوية نقاط قوتك، وانسَ نقاط ضعفك، لأنها ستتحسن مع الوقت». وهذا ما فعلتُه خلال سبع سنوات، حتى وصلتُ إلى نتيجة مفادها أن إحدى مشكلاتنا هي أننا نعرف ضعفنا أكثر من قوتنا، ونتذكر هفواتنا أكثر من نجاحتنا، وندرك ما لا نستطيع فعله، أكثر مما نستطيع، ونعلم الأشياء التي نخفق فيها ونجهل الأشياء التي نتقنها.
أؤمن كثيراً بأهمية تغليب العقل في اتخاذنا قراراتنا في الحياة، ولكن في المواقف الحرجة فإنني أؤمن أكثر بدور القلب، لأنه البوابة التي تنفذ الطاقة الكونية من خلاله إلينا. فالوجود مملوء بالطاقة والنور، إلا أنهما لا يطرقان الأبواب المغلقة. والقلب لا يعرف المجاملة أو النفاق، وحتى حين تجترئ عقولنا أسوأ الكذبات، تُحدثنا قلوبنا بأننا على خطأ. ومن يتقن لغة قلبه لا يمكنه أن يكون على خطأ.
يقول المختصون في التطوير الذاتي إننا لسنا الأسماء التي نحملها، ولا المنازل التي نسكنها، ولا الأموال التي نملكها، ولا المناصب التي نتقلدها. قد تصفنا هذه الأشياء ولكنها لا تصنعنا؛ فهي ليست حقيقتنا. نحن أكبر بكثير من هذه الصفات السطحية، وأرواحنا أكثر عمقاً من حاجات الحياة وأشيائها. تقول الحكمة: «لا يوجد إنسان ضعيف، ولكن يوجد من لا يعرف مكامن قوته»، والأسوأ منه من ينسى أن يبحث عنها.
عندما لا نعرف أنفسنا جيداً فإننا نعجز عن تنميتها وتطويرها، ولذلك فإنها تكون هشة أمام أبسط تحديات الحياة التي تواجهها، فالجاهل بنفسه، الغريب عنها، لا يقدّرها حق قدرها، ولذلك فإنه يجهل كيف يساعدها للخروج من أزماتها.
أما الناجحون فهم من يوقنون بأنهم يستحقون النجاح؛ وهذه الفكرة كافية لتدفع بطاقاتهم الداخلية إلى حدها الأقصى. إن من يعرف نفسه حق المعرفة لن يضطر للتمثيل أمام الناس، ولن يلبس أقنعة ليخفي عيوبه، فهو يدرك أن أجمل حالات الإنسان حينما يكون على سجيته، مضطرباً كان أو مستقراً، حزينا أو سعيداً، ضعيفاً أو قوياً. فالناس لا تحب من يلبس الأقنعة؛ لأنه حينها لا يكون إنساناً، أو حتى شيئاً.
نشرت هذه المادة في صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (٢٧٢) صفحة (١٢) بتاريخ (٠١-٠٩-٢٠١٢)