باحث سعودي
لطالما جادلت نفسي حول قدرة الثقافة على تغيير مسارات الأمم ومصائرها. ويشتد هذا الجدل في أوقات التأزم السياسي مثل التي نشهد هذه الأيام. تعلمت سابقا أن الأزمات تنتج سيولة في الأفكار والقيم، تفضي بالضرورة إلى تحولات اجتماعية غير معهودة. ويتسارع التحول أثناء الأزمات الكبرى كالحروب والثورات والكوارث الطبيعية، بل والكوارث السياسية والاقتصادية أيضا.
كلنا لاحظ التغيير العميق في ثقافة عرب المشرق خلال السنوات 2011 – 2013. أحاديث الناس في لقاءاتهم وآرائهم المنشورة في مواقع التواصل الاجتماعي تشير إلى تصاعد شعور الفرد العربي بذاته كفاعل سياسي، مقارنة بالتصور القديم الذي يعتبر السياسة حرفة خاصة بنخبة صغيرة في المجتمع.
تبعا لأدبيات التنمية يجب اعتبار هذا التطور نقلة إيجابية في كفاءة المجتمع وقابليته لحل مشكلاته، لا سيما تلك الناشئة عن تضارب الإرادات بين الأجيال القديمة ونظيرتها الجديدة. لكن واقع الحال يشهد أن التحولات المذكورة لا تتجسد دائما في فعل إيجابي تقدمي. معظم المجتمعات العربية دخل في نفق الانقسام والاستقطاب، انقسام يلبس في كل بلد عباءة مختلفة.
من السذاجة نسبة هذا الانقسام إلى الاختلاف المذهبي أو تدخل الأجانب، رغم أن هذه عوامل مساعدة لا يمكن إغفالها. ما يجري في بلدان مثل ليبيا ومصر والسودان لا يمكن نسبته إلى اختلاف مذهبي أو ديني أو تدخل أجنبي.
هذا يدعونا للبحث عن احتمالات أخرى. ويهمني هنا تلك الاحتمالات التي طبيعتها ثقافية، أي تلك التي يمكن نسبتها مباشرة إلى عمليات التثقيف العفوي أو المقصود. اقترح مثلا التركيز على عامل «الخوف» أي الشعور بعدم الأمان. والغرض هو التساؤل عما إذا كان هذا الشعور موجودا بالفعل وقابلا للوصف والتحديد، ثم السؤال عما إذا كانت عمليات التثقيف والأدلجة، العفوية أو المقصودة، تؤدي فعليا إلى تعزيز الشعور بالخوف، على نحو يدفع الإنسان لا شعوريا إلى تصور نفسه في حالة اختيار حرج بين حياته وحياة الآخرين.
وجدت جانبا كبيرا نسبيا من المحتوى التربوي والثقافي في الكلام المتداول وفي الثقافة المكتوبة يعزز الميل لعدم الثقة في الآخرين. فهل يمكن اعتبار هذا تمهيدا لترسخ الشعور بعدم الأمان؟. بعبارة أخرى: هل يمكن القول بأن ما يجري أمامنا من نزاعات تصل إلى حد الاقتتال في بعض الحالات، هو نتاج لشعورنا الداخلي بعدم الثقة في محيطنا، و- بناء عليه – شعورنا بالقلق على وجودنا؟.
هذه الأسئلة دعوة للتفكير في احتمال كهذا، وفي طريقة تفاعلنا معه إذا كان واقعيا. ما نربي عليه أولادنا وما نعلمهم إياه في مدارسنا، وما نكتبه أو نقوله في وسائل الاتصال الجمعي، كلها أجزاء في ماكينة الأدلجة والتثقيف، التي قد تكون – إذا صح الاحتمال المذكور – ماكينة تدمير ذاتي لمجتمعاتنا ومكاسبنا، أي المستقبل الذي نريد صنعه لأبنائنا.
المصدر: الشرق الأوسط
http://aawsat.com/home/article/297971/