سأذكّر القراءَ بصورتين، لعلَّ غالبيتهم قد صادف إحداهما هذه الأيام. الصورة الأولى لطائرة صغيرة مسيرة (درون) تقترب من سيدة في أحد شوارع ووهان، المدينة الصينية التي كانت بؤرة فيروس كورونا، وثمة تعليق يفيد بأنَّ الطائرة أَمَرَتِ السيدة بارتداء الكمامة والعودة للبيت. أمَّا الصورة الأخرى فهي لعربة مسيرة (روبوت) في العاصمة التونسية، تقترب من سيدة أيضاً، لتأمرها بالرجوع للبيت.
في كلتا الصورتين، شعر المشاهدون – أو معظمهم – بقدر من الضيق؛ لما لاحظوه من فزع على وجهَي السيدتين. وظننت أنَّنا ما كنا سنشعر بالضيق، ولعلَّ السيدتين ما كانتا ستشعران بالفزع، لو أنَّ الذي تحدَّث معهما رجل شرطة اعتيادي. لكن أنْ توقفك آلة وتصدر إليك أوامرَ، فهذا يولد خوفاً شديداً في نفس الإنسان يصعب احتماله، ولا سيما في ظروف الأزمة.
في الحادثتين حمولة رمزية ضخمة، تشير إلى أحد المخاوف الكبرى التي تنتاب المحللين، إزاء ما سيتلو انحسار وباء كورونا. كنت قد ذكرت في مقال الأسبوع الماضي، أن شعور بعض الناس بنجاح النموذج الصيني في التعامل مع أزمة الوباء، ربما ينصرف إلى تجميل صورة الحكومات المركزية والشمولية، حيث الانضباط والإنتاجية مقدمة في القيمة على الإنسان وحقوقه، كما في الصين المعاصرة. ونقلت أيضاً رأي خبراء قلقين من أنَّ الوباء سيبرر منح النخب السياسية سلطاتٍ أوسعَ من المعتاد، وأنَّ تلك النخب ستتمسك بالسلطات الجديدة حتى بعد زوال الوباء.
نعلم أنَّ حصول النخب الحاكمة على سلطات إضافية، يعني تقليص المساحات المفتوحة في الحياة العامة أو الخاصة، أو ربما زيادة تمركز الدولة، بدل التفويض التدريجي للسلطات نحو الإدارات الوسطى.
كان نيقولو مكيافيلي، المفكر الإيطالي الشهير، قد قال إنَّ الناس لا يعبأون بكيفية توزيع السلطات؛ لأنهم لا يأملون في الوصول إليها. لكنهم يشعرون بأن الحرية تعطيهم الأمان الضروري للسعادة والاطمئنان. الحكومات التي تمارس رقابة لصيقة على الناس، تجردهم من الأمان؛ لأنها تجعلهم في حالة قلق دائم من ارتكاب خطأ. أما في ظروف الحرية، فإن الأخطاء الصغيرة التي اعتاد الناس على فعلها، لا تودي بهم للسجن. الحرية – وفق مكيافيلي – ضرورية للناس؛ لأن الأمان ضروري لحياتهم. والرقابة تقلص نطاق الأمان.
الحقيقة أن التجربة الصينية (التي أحبها بعض الناس) تضمنت نماذج لهذه الرقابة. ومنها مثلاً ضبط حركة الأفراد ومنعهم من ركوب القطارات أو دخول المطاعم والأماكن العامة، إلا إذا عرفوا أنفسهم بواسطة تطبيق خاص على هواتفهم المحمولة.
أعلم أن بعض القراء سيردد المثل المحلي السائر «لا تبوق – أي لا تسرق – ولا تخاف». وهو مثل يستعمل لتبرير خضوع الأفراد لإجراءات أمنية غير ضرورية، وقد يكون غرضها الوحيد إشعار الفرد بأنه تحت السيطرة.
والحق أنه مثل لا يليق بعاقل أن يقبله على نفسه. لكنه – على أي حال – مثل مشهور. تخيَّل نفسك تقف بين ساعة وأخرى أمام مفتش آلي كي تخبره أين تذهب ولماذا. تخيل نفسك محاطاً بعشرات الكاميرات التي تسجل دقائق حياتك اليومية، حتى علاقاتك العائلية.
الميل للتمركز وتوسيع السلطات، واستغلالها للسيطرة على حياة الأفراد، احتمال مقلق في مرحلة ما بعد «كورونا». ربما لن تكون ممكنة بكاملها، لأنَّها ليست واقعية تماماً. لكن على الإنسان أن يحذر من الميل الغريزي عند الأقوياء لاستعباده، فهذا سيكون أسوأ قدر ينتظره.
المصدر: الشرق الأوسط