مدير تحرير صحيفة الجزيرة
ما الحاجة إلى بلد فيه من يخاصمك ليل نهار، يوجّه إليك سهامه، فإن أخفق في إماتتك جاء معتذراً عن الخطأ؟
لبنان لم ير من السعودية سوى الخير والبناء والتعمير والرزق، وهي التي طوت مرارات الحرب الأهلية الطويلة بـ «اتفاق الطائف» فما حاجتنا إليه، ونحن كلما مددنا يداً للمصافحة أسلم إلينا خنجراً ليس من صنع أهله؟ كلما أسهمنا في إعماره ونجدته صدّر إلينا ولاءه للفقيه وطاعته للسيد؟ نحترم نبلاء لبنان الذين عارضوا وانتصروا، مثل السيد وليد جنبلاط والدكتور سمير جعجع وسواهما من الصادقين الكثر المخلصين لبلدهم والخائفين عليه، لكن هيمنة الحزب وسلاحه واستعراضاته تخنق صوتهم الحضاري، وهو يريد أن يجعل البلد منطقة شقاق وأرض توتر، لأن حضوره ينطفئ كلما استطال الاستقرار.
بيروت التي أرهقها الأسد الأب وبعده الابن، ثم فاض عليها «حزب الله» الموالي لطهران، الذي لا يراها سوى مكان يستغله ليحقق رغبة أسياده، لا يستطيع أحد إنقاذها سوى أهلها، فالكرامة لا يصنعها البعيد مهما أحب وأخلص الجهد والعمل.
لبنان الذي كان فخر العرب بانفتاحه وتنوعه وتمازجه المذهل، والشهير بمبدأ «النأي بالنفس»، اتضح أن نأيه أحادي الوجهة، حتى إن تلفزيونه الرسمي يفتح باب الشتائم ضد السعودية التي كانت لها اليد الخضراء، والتي وقفت إلى جانب جيشه ليكون اليد الطولى النقية من التمزقات والصراعات.
اللبنانيون أصدقاء وأحبة يعيشون في الخليج كأنهم أهله وناسه، وتتمازج وتتداخل لهجتهم الجذابة مع اللهجة الخليجية، لتصنع منها لهجة وسطى بحكم المعايشة والتعامل العريق، لكن بعض سياسييهم يحبون اللعب على الحبال، ويقدمون الخوف على المحبة والعشرة، ويرتضون لأنفسهم لغة لا يعرفها العرب ولا يفهمونها، فيحيلون بلادهم المشهورة بأنها «سويسرا الشرق» لفيض جمالها وشدة انفتاحها وتنوع دياناتها ومذاهبها، إلى «قم» صغيرة تستنسخ الأصل وتستكين إلى برطمته، حتى لكأن تنوعها غدا ضعفاً وانكساراً. كانت بلاد اللغات والتنوع فأصبحت أرض الطائفية والفارسية، فأضحت مآذنها وكنائسها تردد خطاب «قم» وتتغنى به.
مهما حرصتَ فلن تكون أكثر غيرة على بلد أكثر من أهله، فإن ارتضوا التوجه إلى قبلة أخرى تنسف ثقافتهم فليس لك سوى المغادرة والابتعاد، إلى أن تذهب السكرة وتجيء الفكرة، فلا يأتي الرئيس المسيحي إلا بإذن طهران، بعد أن أحدثت انشقاقاً امتد من المذهبية إلى الديانة، ومن الحضارة إلى العدم.
لبنان كان ملجأ كل عربي مهضوم الحق، ومنتدى السياحة وأرض الاستثمار، أما اليوم فقد أسكنه الحزب دوائر الشك وانعدام الثقة في أي طرف، وعطل وجود رئيس ما لم يكن نامياً تحت ظله، وأرهق اقتصاده، وأحل الاستعراضات العسكرية مكان المسرح والمهرجانات، وجعل سماحته المذهبية الشهيرة فتيل احتقان قد يشتعل في أية لحظة.
كان من الممكن أن تغضب السعودية وتدير ظهرها للبنان بعد كل هذا النكران، لكنها لا تخذل حلفاءها، ولا تترك أكثر الأشقاء وسامة عرضة لعمليات تشويه مدمرة. ومهما رانت الغمامة الثقيلة فلا بد أن تنجلي، فالصوت اللبناني الأصيل يزداد قوة واستنكاراً، وما يحدث أخيراً أبرز دليل.
المصدر: الحياة
http://alhayat.com/Opinion/Jasser-AlJasser/8461097