رئيس مركز الأهرام للترجة والنشر ، حاصل على دكتوراة الفلسفة في العلوم السياسية من جامعة القاهرة 1992
ليس واضحاً إلى أين تتجه مصر إقليمياً ودولياً، ولا ما هي سياستها الخارجية الآن بعد أكثر من عشرة أشهر على تولي مرسي رئاسة الجمهورية. فالسؤال الذي يثار عادة عندما تنتقل السلطة إلى رئيس جديد هو حدود الاستمرار والتغير في السياسة الخارجية. وإذا كان هذا السؤال ضرورياً عند انتقال السلطة في ظروف عادية أو طبيعية، فهو أكثر أهمية وأشد إلحاحاً حين يحدث هذا الانتقال بسبب تغيير كبير ترتب على انتفاضة شعبية واسعة خلقت وضعاً جديداً يتولى السلطة فيه رئيس ينتمي إلى جماعة بدا خلال العقود الماضية أنها تتبنى مواقف راديكالية.
غير أن هذا السؤال المهم والملح لا يجد إجابة حتى الآن. فلم تطرح السلطة الجديدة رؤية واضحة لسياسة مصر الخارجية، سواء عبر خطاب لرئيس الجمهورية يحدد فيه الاتجاه، أو من خلال وثيقة تضع حداً للغموض الذي ينتاب بعض جوانب هذه السياسة على نحو يثير الكثير من القلق والشك داخل مصر وفي كثير من الأوساط خارجها.
وإذا كان استمرار هذه السياسة على المستوى الدولي كما كانت عليه في العقود الأربعة الأخيرة يناقض الاتجاهات التي تبنتها جماعة «الإخوان» خلال الفترة نفسها حيال الولايات المتحدة وسياساتها المنحازة لإسرائيل، ويتعارض مع الهجوم الذي شنته هذه الجماعة على السياسة الخارجية المصرية منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، فإنه يثير سؤالا كبيراً عما إذا كان هذا تكتيكاً أم اتجاهاً استراتيجياً.
فقد ظهر، منذ أن بدأت جماعة «الإخوان» تعد العدة للوصول إلى السلطة، أنها حريصة على كسب ود الولايات المتحدة في المقام الأول، وكذلك أوروبا. ووضح ذلك عندما انتقدت الإجراءات القانونية التي اتخذتها حكومة الجنزوري في يناير 2012، خلال الفترة التي أدار فيها المجلس الأعلى للقوات المسلحة شؤون البلاد، ضد بعض منظمات المجتمع المدني المصرية والأميركية، بسبب ما أُعتبر وقتها تجاوزات ارتكبتها. وعندما عبر السناتور ماكين، بُعيد زيارته مصر في ذلك الوقت، عن امتنانه لدور «الإخوان» في السعي إلى حل الأزمة المترتبة على تلك الإجراءات، كان هذا مؤشراً قوياً على أن دفة الجماعة تتحول بموجب مصلحتها التي باتت تقتضي طلب الرضا الأميركي.
وقل مثل ذلك عن إعلان جماعة «الإخوان» عشية الانتخابات الرئاسية التزامها بمعاهدة السلام التي سبق أن أشبعتها هجوماً منذ توقيعها في مارس 1979، وتكرار مرسي هذا التعهد مرات خلال حملته الانتخابية وبعد دخوله قصر الاتحادية.
ورغم أن الاستمرار في سياسة مصر الخارجية على المستوى الدولي، وخاصة تجاه الولايات المتحدة، اقترن ببقائها كما كانت مع إسرائيل، فما كان لهذا الاستمرار أن يحدث بدون تغير في الموقف تجاه الوضع في قطاع غزة وموقع هذا القطاع الذي تسيطر عليه حركة «حماس» في معادلة الصراع والسلام الفلسطيني -الإسرائيلي. فقد تغيرت سياسة مصر تجاه «حماس» من الضغط والحصار والاحتواء إلى التقارب الشديد نتيجة العلاقة الوثيقة التي تربط هذه الحركة بما تُعتبر بالنسبة إليها «الجماعة الأم» في القاهرة.
ولذلك يرتبط هذا التغير بمعطيات الواقع الإقليمي الجديد. لكن هذا التغير اقترن بمزيج من الاستمرار والتغير في السياسة التي كانت متبعة تجاه الأوضاع في قطاع غزة. فقد استهدفت سياسة «مبارك» تحقيق تهدئة بين «حماس» وإسرائيل. لكنها لم تتمكن من تحقيق أكثر من تهدئة مؤقتة -من وقت لآخر- لا تلبث أن تنهار جزئياً أو كلياً. وهذا هو ما اختلف منذ أن رعت السياسة الخارجية المصرية اتفاق التهدئة الذي تم توقيعه بين إسرائيل و«حماس» في 21 نوفمبر الماضي، على نحو حقق لجنوب إسرائيل أمناً لم ينعم به من قبل وأدى إلى تغيير موقع قطاع غزة في معادلة الصراع والسلام.
غير أن هذا الخليط من عناصر الاستمرار والتغير في سياسة مصر الخارجية تجاه الوضع في قطاع غزة، اقترن بغموض بشأن حدود العلاقة مع حركة «حماس» والمدى الذي يمكن أن تبلغه في ظل جدل واسع النطاق حول دورها في دعم جماعة «الإخوان» منذ اليوم الأول للاحتجاجات التي اندلعت ضد النظام السابق، وكذلك حول تأثير تلك العلاقة على أمن مصر القومي.
فما أكثره الغموض الذي يحيط بجوانب بالغة الأهمية والدقة في سياسة مصر الخارجية الراهنة تجاه «حماس» وقطاع غزة على نحو يخلق ارتباكاً في العلاقة بين مؤسسات الدولة ذات الصلة بهذه السياسة وبقضية الأمن القومي، خصوصاً بين رئاسة الجمهورية من ناحية والقوات المسلحة من ناحية ثانية. ولا يبدو هذا الارتباك بعيداً عن العلاقة، أو «اللاعلاقة»، بين المعنيين بالسياسة الخارجية في رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية المسؤولة رسمياً عن تنفيذ هذه السياسة.
وهكذا يبدو الغموض هو الطابع السائد لسياسة مصر الخارجية الراهنة على المستوى الإقليمي على نحو يؤدي إلى مزيد من التراجع في دورها العربي وحضورها في المنطقة. فباستثناء قطر، يعم الفتور علاقات مصر مع باقي بلاد مجلس التعاون الخليجي بدرجات متفاوتة وبصورة لا تخلو من توتر في بعض الأحيان، رغم حاجتها الماسة إلى بناء أفضل الروابط مع هذه البلاد في مرحلة شديدة الصعوبة. وربما يمكن فهم هذه المفارقة حين نعلم أن الدولة العربية الخليجية الوحيدة التي حدثت طفرة في علاقاتها مع مصر تعتبر وحيدة أيضاً من حيث عدم وجود تنظيم تابع لجماعة «الإخوان» فيها بعد أن بادر هذا التنظيم بحل نفسه في منتصف تسعينيات القرن الماضي.
ويثير ذلك سؤالا كبيراً سيكون في مقدمة اهتمامات دارسي سياسة مصر الخارجية في المرحلة الراهنة، وهو السؤال عن العلاقة بين مصالح الدولة وطموحات الجماعة التي تحكم هذه الدولة. ولأن هذه العلاقة لا تزال في طور التشكل، تبدو سياسة مصر الإقليمية في حال ارتباك لا سابق له منذ أربعينيات القرن الماضي.
ويشمل هذا الارتباك العلاقات مع إيران ورؤية السلطة الجديدة لها والغموض الذي يشوبها في ظل حرص رئاسة الجمهورية على إدارتها بمنأى عن وزارة الخارجية.
وليس التوتر المتزايد داخل مصر اليوم بشأن مسألة الشيعة والتشيع، والذي وصل إلى حد محاولة اقتحام منزل رئيس بعثة المصالح الإيرانية لدى القاهرة خلال مظاهرات نظمها سلفيون يوم 5 أبريل الماضي، إلا نتيجة هذا الارتباك وما يقترن به من غموض في سياسة مصر تجاه إيران وحدود الانفتاح المتوقع في العلاقات بين البلدين.
ولذلك يصبح السؤال عن ماهية السياسة الخارجية الراهنة واتجاهاتها، وخاصة على المستوى الإقليمي، من أهم الأسئلة التي تبحث عن إجابة في مصر الآن.
المصدر: جريدة الاتحاد