كاتب وأستاذ جامعي موريتاني، له كتب ودراسات عديدة منشورة في ميادين الفلسفة المعاصرة وإشكالات التحول الديمقراطي.
في الوقت الذي أكد مؤتمر الأزهر الذي انعقد مؤخراً بالقاهرة بمشاركة كل طوائف الأمة ضرورة شن حرب دينية لا هوادة فيها ضد إرهاب المجموعات المتطرفة، أثبتت الأحداث التي تعرفها المنطقة حالياً أن الأمر لا يتعلق بمجرد نشاط تنظيمات معزولة صغيرة، وإنما بتحد خطير وظاهرة متشعبة المكونات والخلفيات، لها بيئتها الثقافية الحاضنة وخطابها التعبوي الناجع وتمفصلاتها الاجتماعية المتنوعة.
وكما بين سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية الإماراتي أن أول خطوة لمواجهة هذه الظاهرة هي تفكيك لعبتها المصطلحية برفض توظيفها للمعطى الديني (مثل استخدام الدولة الاسلامية بخصوص الحركة الداعشية)، باعتبار أن المفاهيم والألفاظ من صلب استراتيجية المواجهة، أو حسب عبارة علماء الاجتماع كل صراع أصناف (أي طبقات ومجموعات) يواكبه صراع تصنيف بمعنى التعبير والتأويل والتحديد.
وإذا كانت الأدبيات الغربية تنضح في أيامنا بمقاربات زائفة تربط العنف والتطرف بجوهر الدين الإسلامي، سواء بنعته بأنه الدين الأوحد الذي لا فصل فيه بين الديني والسياسي، أو بالقول إن عقيدته الخلاصية تلغي بالإكراه والقوة كل مخالف في الملة والمعتقد، إلا أن هذه الآراء المنتشرة على نطاق واسع، والتي من السهل دحضها لا تستند لأي منظور معرفي رصين، وإنما تكرر مستنسخات معروفة في خطاب الإسلاموفوبيا الصاعد الذي تغذيه جرائم المجموعات المتطرفة. ومع ذلك لا مندوحة من الإقرار بأن هذه الجماعات المتشددة استطاعت استمالة قطاع واسع من الشباب العربي والإسلامي، وهي ظاهرة لا يمكن أن تُفسر كلياً بأطروحة التهميش الاجتماعي، أي القول بانحدار أغلب المتطرفين من أوساط فقيرة محرومة وغير مندمجة في النظام الاجتماعي ودوائر المشاركة والقرار.
ومع أن لهذا العامل تأثيره في بعض الساحات (خصوصاً في البدان الفقيرة، أو تلك التي تحكمها الديكتاتوريات العسكرية والأمنية الفاسدة)، إلا أن كل المؤشرات تبين أن العمود الفقري لحركية التطرف الديني العنيف ليس نموذج «الريفي النازح للمدينة العاطل عن العمل والمهمش» الذي كان أساس موجة الارهاب الاولى التي عرفتها البلاد العربية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي (حركة التكفير والهجرة في مصر مثلاً)، وإنما يتعلق الأمر بنموذج جديد مندمج في المجال التواصلي العالمي ومنحدر في الغالب من أصول اجتماعية مرفهة ومحدود الثقافة الدينية الأصلية لا يزيد رصيده الفكري الديني عن خطب وفتاوى نجوم الفضائيات من فقهاء الفتنة والتشدد.
في مقابل «إرهاب الفقر والتهميش»، نشهد اليوم نمطاً من «الإرهاب المرفه»، الذي إنْ كان يرفع الشعار الديني، إلا أنه في الواقع يستخدم القاموس الديني لتمويه تجارب ذاتية وفردية تدخل في استراتيجيات لا صلة للدين بها، تندرج في منطق مسرحة الموت والاحتفاء بالجسد، ولو بتدميره استعراضياً واتخاذه وسيلة للتعبير وطريقة دموية للانكشاف (على غرار التعري الحميمي في شبكات التواصل الاجتماعي وبرامج تليفزيون الواقع). ليس من المهم ما يقوله الانتحاري من استشهاد بنصوص الاستشهاد والجهاد وتغيير المنكر، فكلها تعبيرات حاجبة لمنطق الاستهلاك الفردي لـ«متع الموت والتدمير»، كما لا عبرة بابتعاث شكل «دولة الخلافة» لوصف أنماط جديدة من الكيانات يجتمع فيها اقتصاد الحرب والجريمة بتحلل الدول المركزية وإنتاج ضروب جديدة من الهويات الطائفية المتناحرة.
ليس المتطرفون الدمويون امتداداً للخوارج والحشاشين، ولا هم غلاة من طوائف الأمة، إنهم من آثار حداثة باثولوجية مرَضية، تُوظفُ النسق الرمزي الأوحد الفعال (السجل الديني)، في رهانات لا صلة للدين بها، ومن هنا ندرك إقبال الشباب الأوروبي المرفه على عصابات الدولة «الداعشية»، بيد أن مواجهة هؤلاء المتطرفين تقتضي إلى جانب الأساليب الأمنية الناجعة تفكيك خطابهم الديني الذي يستند في العديد من مفاهيمه وتعبيراته الى أطروحات رائجة في أيديولوجيا الإسلام السياسي والثقافة الدينية المعلبة الجديدة التي هي أبعد ما تكون عن التقليد الديني. المطلوب هو حرب أفكار حقيقية للوقوف ضد حركية تطرف وعنف وغلو هي في حقيقتها تدنيس للدين بافقاره روحياً وقيمياً وتحويله لسلاح موت وأداة تدمير.
المصدر: الاتحاد
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=82521