لا أظنُّنا سننتهي من سؤال العلاقة بين العلم والدين، إلا إذا توصلنا إلى فهم لغايات الدين، ونطاق اشتغاله غير الفهم الذي ورثناه عن الأسلاف.
لقد فكَّر المئات من الناس في هذا السؤال، واختار معظمهم جواباً سهلاً، لكنه غير مفيد، خلاصته القول بالترتيب بين الاثنين أو القول بعدم التعارض. لهذا بقيت القضية شاغلاً لدعاة الإصلاح الديني، الذين رأوها أساسية في النقاش حول مكانة الدين في هذا العصر، وأنها مقدمة على كثير ممَّا يهم عامة الناس.
المسألة بذاتها مهمة، لأن حياة البشر المعاصرين، تقودها معارف علمية تطورت في سياقات بعيدة عن الأديان والقيم الروحية.
هذا يعني أن الافتقار لفهم صحيح للمسألة، ربما يؤدي إلى احتلال العلم مقعد القيادة، بالنظر لأن الناس يرونه أكثر ضرورة لحياتهم، وبالتالي دفع الدين إلى هامش الحياة.
وفيما مضى كنت أظنُّ أن هذا الجدل مرتبطٌ بالاتصال بين المسلمين والغرب. لكن ظهر لي لاحقاً أنه قديم. فقد أثار اهتمام الفيلسوف والفقيه الأندلسي المعروف أبي الوليد بن رشد (1126 – 1198م) الذي خصص اثنين من كتبه لإثبات إمكانية التلاقي بين مناهج الاستدلال العقلية ونظيرتها الدينية؛ هما «الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة» و«فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال».
المسألة التي دعت ابن رشد إلى خوض هذا النقاش، هي ذاتها التي تشغلنا اليوم، أعني سؤال «هل للعقل دور في إنشاء القيم أم أن هذا الدور قصر على الدين؟». من نافل القول أن القضايا التي طرحت في عصر ابن رشد كانت في الغالب كلامية، موضوعها العقائد. أما اليوم فإن أبرز المسائل تتعلق بأفعال الناس، وما يتولد عنها من إلزامات شرعية، ولذا فهي تبحث في إطار الفقه، رغم أن التوصل إلى حلول أساسية يستدعي بحثاً في فلسفة الدين والأخلاق.
أظن أن بعض القراء سيعتبر السؤال المذكور ساذجاً، وأنه قد جرى حله منذ مئات السنين. لكن الحقيقة ليست على هذا النحو. نحن لا نسأل سؤالاً نظرياً مجرداً حول قضية مثل «احترام الدين للعقل»، بل نسأل – بقصد التطبيق – عن إمكانية الاعتماد على العقل مستقلاً، في تقرير قيم وإصدار أحكام، مثلما نعتمد على الكتاب والسنة. لتبيين مركز النقاش سوف نلخص المشكلة المطروحة في السؤالين التاليين:
أ- هل العقل مصدر تشريع قائم بذاته مثل الكتاب والسنة، أم أنه مجرد أداة تابعة لهما؟ يمكن فهم هذا السؤال على النحو التالي: هل للمسلمين – كبشر عقلاء – دور في إنتاج القيم الدينية وإعادة إنتاجها عبر الأزمان، أم أن القرآن هو المصدر الوحيد للقيم والأحكام، وأن هذه ثابتة شكلاً ومضموناً، فلا تتغير مع الزمن؟
ب- نعرف أن كثيراً من الأحكام، لا سيما تلك التي تنظم علاقات البشر، ناظرة إلى مصلحة معقولة أو حكمة بينة. ونعلم أن تحديد المصلحة يتغير بحسب الظرف الزماني والمكاني وتغير حاجات الناس. دراسة هذه التغيرات موضوع من موضوعات العلم وليس الدين. فهل يمكن القول إن الأفعال والمصالح التي تتعلق بها أحكام شرعية، بل موضوعات الحكم الشرعي بشكل عام، خاضعة للمعايير العلمية البحتة، في تحديدها وتكييف ما يتعلق بها من إلزام شرعي؟
هذه إضاءة على موضوع أظنه من الموضوعات المعقدة. وهو على قدر كبير من الأهمية. وسنحتاج للتفكير في إبعاده طويلاً قبل طرح الجواب.
المصدر: الشرق الأوسط