ما كتبته وكتبه زملاء آخرون حول الميل للعنف في الشخصية العربية، لا يستهدف إدانةَ الثقافة العربية، بل تحليل ظاهرة، من دون ادعاء أنه منزه عن الخطأ. يهمني تأكيد هذه النقطة، لأنَّ بعض القراء الأعزاء بذل جهداً مضنياً في بيان أن البشر كلهم ميالون للعنف، وأن الأوروبيين فاقوا العرب في هذا، وأن عنف العربي كان في الغالب رد فعل على عدوان أعدائه… إلخ.
وأريد استثمار المناسبة للفت الأنظار إلى ما أظنه مشكلة عامة في التداول الثقافي، تتجلَّى في الانزلاق السريع من المناقشة النقدية (وهي الطريق الطبيعية لتطور الثقافة) إلى التبجيل أو الاعتذار والتبرير. ولا ينفرد المجتمع العربي بهذا النهج، فهو معروف في كل مكان تقريباً، وقد أطلق عليه في الولايات المتحدة، في وقت سابق، اسم «الماذا – عنية Whataboutism». ويراد به التنديد بالناقدين الذين يغفلون سياق الموضوع، ويركزون على مجادلة شخص الكاتب، أو إثارة نقاط غير ذات صلة. وأحتمل أن التسمية تستبطن نوعاً من السخرية. وقد استعملت أيضاً في سياق الإنكار على السياسيين والكتاب الذين يخدمون أجندات سياسية. ولعل الرئيس الأميركي ترمب هو أحدث من قيل إنه «Whataboutist» أي أنه يتبنَّى نهج «الماذا – عنية» كما يظهر في نقاشاته وخطبه، لاسيما حين يدافع عن نفسه أو سياساته. وبعض الموارد المتصلة بهذا مذكور في مواقع متعددة.
زبدة القول إنه ليس من الفطنة تحوير النقاش، بإثارة نقاط غير ذات صلة بجوهر الموضوع، فهذا النهج قد يشير إلى أن صاحبه لم يستوعب الفكرة، أو أنه – لو أسأنا الظن – يحاول تشتيتها بإثارة قضايا غير ذات صلة، لأنه عاجز عن النقاش الحسن.
بعد هذا الاستطراد أعود إلى مسألتنا الأولى، أعني الغرض الذي لأجله نتحدث عن علاقة العنف بالثقافة أو رسوخه في التراث العربي. إن الغرض من هذا هو توجيه المربين، سواء كانوا آباء أو معلمين أو غيرهم، إلى الجذور الثقافية لنزعة العنف والتشدد. وبعض هذه الجذور خفي لا يراه غير قليل من أهل النظر. ومن ذلك مثلاً الرؤية القائلة إن الشر هو الطبع الأولي في البشر، وإن الخير لا يأتي إلا بالتعليم والإرشاد ومعه السيطرة والردع. وقد كتبت عن هذا الأمر مراراً، وأشرت إلى أنك لو سألت الناس عن الغاية من وضع القوانين وإقامة الحكومات مثلاً، لأجابك معظمهم بأن الغاية هي ردع الأشرار. ولعل القليل منهم يستذكر أن غرض القانون والحكومة هو إعانة ذوي الحقوق في نيل مستحقاتهم، ونيل الحقوق ليس بالضرورة من موارد النزاع، بل قد يأتي في سياق التوزيع العادل للموارد المتوافرة في المجال العام (مثل توزيع الأراضي للسكن والاستثمار). أو تنظيم صرف الثروة المشتركة في الخدمات المفيدة للجميع.
أقول إن غالبية الناس يتخيلون أن الردع هو علة قيام الحكومة والقانون. لأنهم في الأساس يعتقدون أن البشر أميل للفساد لولا وجود الرادع. وهذا رأي أرسطو الذي تبعه غالب الفقهاء والمتكلمين المسلمين منذ أقدم العصور وحتى الآن. ولذا فهو الاتجاه الغالب على الثقافة المتداولة في الإطار العربي والإسلامي.
في رأيي أن هذا الاعتقاد (الذي أجزم أنه خاطئ) هو أحد الجذور المولدة لنزعة التشدد تجاه الغير، التي تستدرج – بطبيعة الحال – ميلاً للطرق العنيفة في التعامل مع الآخرين. ولعلنا نعود للموضوع في وقت آخر.
المصدر: الشرق الأوسط