كاتبة سعودية
في سنوات الطفولة، كان علي دائما التواري عن الأنظار في المنزل، أثناء قراءة قصص المكتبة الخضراء، لأن الكتب المسموحة آنذاك كانت كتب المدرسة فقط، ولا شيء آخر غير كتب المدرسة، وأي كتاب آخر لا يمكن أن يُنظر له ككتاب مفيد، بل يُحسب من كتب اللهو ويعتبر مضيعة للوقت. وفي المدرسة كان علي أن أُبرر للمعلّمة، حين أحاول أن أبريء ساحتي عن تهمة اللعب أثناء الحصة، وأختلق لها حكاية طويلة عريضة، كي لا تُصادر الكتاب حين تضبطني متلبسة، أثناء عملية تبادل مع زميلتي، ففي كل مرة كنت أضطر لسرد نفس التبرير، وأتوقع أن يمر ذلك على المعلمة وتصدق، بأن الكتاب يعود لوالد تلك الزميلة، حيث تركه سهوا في بيتنا أثناء زيارته لوالدي.
وهكذا، كلما ضُبطت متلبسة مع كتاب، كان علي أن أبرر وأبرر لكل من حولي، بأنني لا أقرأ بل أفعل شيئا آخر بالكتاب غير القراءة، مثل أن أستخدمه كوسيلة للبحث أو مرجع، أبحث داخله عن معلومة أو أتبين منه أخرى. لأن أي كتاب يظهر في حياتي غير كتب المدرسة، يرمز لإهدار الوقت وينذر بضياع المستقبل، وينقل وهما بخراب التفكير، هكذا كان بعض الكبار في محيط المنزل والمدرسة يعتقدون.
والأمر الأكثر ظرافة وجنوحا، تلك الأفكار القلقة التي كانت تعبر عنها جدتي، حين اكتشفت بأنني نشأت مولعة بالقراءة، فكانت أكثر ما تخشاه، أن تفسد تلك الكتب رأسي وتعبث به، فأكبر دون أن أتمكن من إتقان الطهي والكي وتربية الأطفال. فحين أزورها، كانت تتعمد سرد حكايات وأساطير، تتمحور حول أشخاص، فقدوا ماء أعينهم من كثرة القراءة، وآخرون ضمرت عقولهم وضعفت، وغيرهم ممن سقطوا في بئر المرض والجنون. وأكثر ما كان يُضحكني في تلك الحكايات، قصص من منعتهم الكتب عن الزواج، وكيف انتهى بهم الحال في غرف منعزلة فوق السطح، وأخرى فوق الجبل. ولا أنكر بأنني استمتعت كثيرا بجميع تلك القصص، ولكنها لم تجد ولم تؤثر بي، بل ملأتني شغفا وزادتني أملا في أن تتحقق أمنيتي يوما، وأعيش في مدينة تملأها الكتب، حيث أجدها أينما أذهب على رفوف وجدران على مد البصر ولا تنتهي. فلا أحتاج فيها إلى أن أدس أي كتاب أو أتوارى به.
وحين سلكت حياتي منعطفا آخر، ووجدت نفسي في بداية فصل جديد، أصبح لدي بيت ومساحة خاصة، كان علي أن أختار فيها بين نقل مئات من الكتب والقصص، أو تأثيث المنزل الصغير بمجموعة من التحف والمقاعد والكأسات والصحون. رأيت طيف جدتي تؤكد لي مخاوفها. ولكن حين نكبر لا تكون الأمور بتلك الصعوبة التي كنا نراها عليها حين كنا صغارا، لذلك احتفظت بجميع الكتب وبقليل من الصحون. ولا أدري كيف ستكون ردة فعل جدتي لو عرفت قبل أن ترحل، بأن تلك المدينة التي تمنيت، أصبحت حقيقة لا يصدقها العقل، وكأنها خرجت من خيالي لمقاطعة ويلز البريطانية، لتستقر في قرية صغيرة يطلق عليها (هاي أون واي) Hay-on- Wye المكتبة الكبيرة، التي تبيع وتُقرض الكتب بأسعار رمزية في أرجاء المدينة بالثقة، فتجد الأسعار موضوعة تحت كل رف، في ثقة بأن القارئ الحقيقي سيضع قيمة الكتاب الذي يريد في المكان المخصص للنقود.
وبدأت قصة المدينة مع الكتب عام 1961،عندما افتتح “ريتشارد بوث” أول مكتبة للكتب المستعملة في الحي الذي كان يقطنه، وذلك بعرضها في محطة إطفاء قديمة، ذلك الوقت كانت تشهد المكتبات في أميركا تراجعا كبيرا أدى إلى إغلاقها، فعمل ريتشارد على توظيف شابين وأرسلهما هناك لشراء الكتب وشحنها في حاويات إلى قرية هاي أون واي. ومع مرور الوقت، انتشرت المكتبات في تلك المدينة وأصبحت تعرف باسم “مكتبة الثقة”، وهي مكاتب عامة تتوزع الكتب على رفوفها المنتشرة في أرجاء المدينة، دون أن يحرسها أو يبيع فيها أحد، بل يقوم المشتري باختيار الكتب التي يريد ويضع المال في صندوق عليه فتحة صغيرة وبطاقة كتب عليها “ادفع هنا”. تبنت بقية مكتبات المدينة تلك المبادرة وبدأت تبيع الكتب على الرفوف بنفس الطريقة، كما ابتكرت عدة طرق لبيع الكتب المستعملة في جميع زوايا وطرقات المدينة، حتى أصبحت تلك القرية في السبعينات تعرف عالميا بمدينة الكتب، وتستقبل آلاف السياح كل عام. حيث يستمتع الزائرون والسياح بالتجول بين الكتب في الهواء الطلق والاستمتاع بالقراءة. ومن أشهر مكتبات تلك المدينة، مكتبة تقع في ساحة قلعة هاي، في قلب المدينة، ويعود تاريخ بنائها إلى القرن الثاني عشر، وهي عبارة عن رفوف خشبية على الهواء الطلق مثبتة على أحد جدران القلعة تبيع الكتب بجنيه إسترليني.
“هاي أون واي” مدينة خيالية تستحق الزيارة، ربما رأيتها كثيرا في طفولتك، ولكن لم تتصور يوما بأن وجودها سيصبح حقيقة، فمن شدة واقعيتها ستجدها بتفاصيلها الصغيرة تعانق الخيال.
المصدر: الوطن