كاتب و محامي إماراتي
ما الذي حدث في مصر حتى وصلت الأمور إلى ما هي عليه اليوم من احتراب وتنابذ أدى إلى انقسام مجتمعي خطير ربما يحدث لأول مرة بهذا الشكل ويهدد الكيان المصري ما لم يبادر العقلاء إلى تدارك الأمر ؟ سؤال يجول في خاطر كل محب لمصر وهو يراها تنزلق إلى الفوضى وتسير نحو مستقبل مجهول بين قوى سياسية تتجاذب عليها أطراف الصراع دون أن يبدو في الأفق تصور لحل يصل بمصر الدولة والشعب إلى بر الأمان .
لقد ركب الإخوان موجة الثورة مبكراً مع تشككهم ابتداءً في نجاحها ضد نظام كان يبدوا ثابتاً على الأرض بقواعده الممتدة وقبضته الأمنية الراسخة، إلا أنه مع أول بوادر لاهتزاز نظام مبارك، تسابق الإخوان إلى الانخراط في الثورة ثم ما لبثوا أن تصدروا المشهد السياسي ساعدهم في ذلك حسن تنظيمهم في ظل انفراط عقد قوى الثورة التي لم يكن يجمع بينها سوى العداء لنظام مبارك. وتمكن الإخوان من اكتساح الانتخابات البرلمانية ثم الرئاسية ووصلوا إلى سدة الحكم في مصر لأول مرة بعد ما يزيد على الثمانين عاماً من تأسيس جماعتهم .
كانت بدايات الثورة إذاً طيبة للإخوان وبدأ المستقبل أمامهم لسيادة المنطقة بعد وصول حركات الإسلام السياسي إلى الحكم في تونس وليبيا . إلا أن عدم خبرة الإخوان في إدارة شؤون الدولة وعدم قدرتهم على تجاوز سنوات الحصار وعدم القدرة على التأقلم مع العمل العلني من موقع الحكم سرعان ما بدا واضحاً مع سلسلة الأخطاء التي ارتكبوها ابتداءً من الإعلان الدستوري المشؤوم الذي كان بداية الانحدار في المسار السياسي للإخوان .
في تقديري أن الذي قاد الإخوان إلى ارتكاب سلسلة الأخطاء التي أوصلتهم إلى الأزمة التي يعيشونها اليوم تتمثل في عدة أمور فما أن وصل الإخوان إلى موقع الحكم حتى أدركوا أن أجهزة الدولة التي أنشأها نظام العسكر على مدى ستون عاماً لن تجاري أهواءهم في الحكم والإدارة . وبدلاً من الاستهداء بالتجربة التركية التي مر بها حزب العدالة والتنمية في ظروف سياسية مشابهة والذي اختار سياسة التأني وعدم المجابهة بل وتقبل على مضض لكثير من الأمور والسياسات التي تخالف توجهاته الفكرية ، والانصراف أولاً إلى بناء الاقتصاد وترسيخ قيم العدالة والحرية وتجذير التجربة البرلمانية حتى اكتسب الحزب شعبية واسعة من المؤيدين لسياسته وإن لم يكونوا بالضرورة موافقين لتوجهاته الفكرية واستطاع بهذه الشعبية وبقوة التجربة البرلمانية أن يُقلم أظافر العسكر . بدلاً من أن يسترشد الإخوان بهذه التجربة انصرفوا ابتداءً إلى محاولة التشبث بالحكم عن طريق السيطرة على مفاصل الدولة وهو ما سمي لاحقاً بأخونة الدولة دون التفكير فيما بعد الفوز بالسلطة ودون امعان النظر في جاهزيتهم لممارسة الحكم ودون الأخذ في الاعتبار للاستحقاقات المترتبة على الحكم . هذا التوجه أدى إلى اصطدامهم بالقوى السياسية والبيروقراطية التي تخالف الإخوان فكرياً مما أدى إلى اشتعال معارك على كل الجبهات في الإعلام والسياسة والقضاء وغيرها . ونتيجة لانصراف الإخوان إلى هذه المعارك الجانبية فإنهم لم يطرحوا برامج للتنمية والإصلاح السريع لشعب نفذ صبره من ظروفه المعيشية الآخذة في التدهور مما أدى إلى ازدياد النقمة الشعبية عليهم من قبل المواطن العادي. وانتهى الأمر في نهاية المطاف إلى هذا الحشد الشعبي الكبير ضدهم المتمثل أساساً في المخالفين معهم فكرياً ومن أنصار النظام السابق الذين فقدوا امتيازاتهم بالإضافة إلى قطاع كبير من المواطنين الذين يرزحون تحت وطأة ظروف معيشية قاسية . إضافة إلى الكثيرين من الرافضين لأن يفرض الإخوان عليهم نمطاً معيناً في الفكر والسلوك .
و نهم الإخوان على السلطة أدى بهم إلى محاولة الاستحواذ على جميع المناصب المهمة دون اعتبار لحلفائهم الطبيعيين من ذوي التوجهات الإسلامية كالسلفيين وغيرهم الذين ساندوا الإخوان في البداية إلا أنهم وجدوا أنفسهم خارج القسمة السياسية . لذلك فعندما تحرك الائتلاف الشعبي ضد الإخوان وجدوا أنفسهم وحيدين في ساحة المواجهة إذ ارتأى السلفيون وهم يفوقون الإخوان عدداً الوقوف على الحياد فخسر الإخوان حليفاً رئيسياً لهم .
لقد كان في إمكان الإخوان التضحية ببعض المطالب الآنية من نسب التمثيل في المجالس النيابية والحقائب الوزارية لصالح تيارات أخرى تخالفهم فكرياً وذلك من أجل تأصيل التجربة الديموقراطية الوليدة وترسيخها ، ويبدو أنه كان هناك توجهاً لبعض قياداتهم في الاتجاه إلى هذا المنحى وذلك حينما أعلنوا أنهم لن يترشحوا لأكثر من 40% من مقاعد مجلس الشعب ، إلا أن النظرة الحزبية الضيقة والمطالب الآنية غيبتهم عن الهدف الأسمى فانطلقوا في نهم محموم للاستئثار بكل ما يمكن الحصول عليه من مجالس الدولة وإدارتها .
كما أن رهان الإخوان على أطراف أجنبية ومحاولة إرضائها حتى ولو كان ذلك على حساب مبادئهم السياسية اعتقاداً منهم بأن هذه القوى يمكن أن تكون صمام أمان رهان أثبت الواقع خطأه.
كما أن مفهوم حصر الديموقراطية في صندوق الانتخابات الذي تمسك به الإخوان ينُم عن عدم فهم للعملية السياسية وأركانها الأخرى المتمثلة في فصل السلطات وسيادة القانون واستقلال القضاء وتداول السلطة . صحيح أن الصندوق هو من أركان الديموقراطية المهمة ولكنه لا يعمل بمعزل عن غيره من أدوات الديموقراطية . بالإضافة إلى هذه الأخطاء فقد دفع الإخوان ثمن أخطاء عدم وضع الأسس والقواعد القانونية والدستورية لنظام سياسي جديد بعد 25 يناير قبل تسليم السلطة لأي فصيل سياسي وهو شرط أساسي لنجاح أي عملية تحول ديموقراطي وهذا ما لم يفعله المجلس العسكري أثناء إدارته للمرحلة الانتقالية .
ومن أخطاء الإخوان كذلك المزايدة بموضوع الفلول على مئات الألوف من المصريين ممن دخلوا الحزب الوطني الديموقراطي رغبة في منفعة والعمل على إقصاء هؤلاء دون أن يرتكبوا جرائم محددة أو يكون طرفاً في قضايا فساد وهي ظواهر لا تُحارب بالإقصاء كما حدث في مصر .
لقد أوصلت هذه الأخطاء جماعة الإخوان إلى أكبر أزمة في تاريخها ، إذ أن الخسارة هذه المرة لا تتمثل في الحصار السياسي والأمني فحسب بل أنه خسارة لرصيدها الإجتماعي الذي كان دائماً مصدر قوتها وانتشارها.
إن التوجه الذي يسير إليه الصراع في مصر يُنذر بعواقب وخيمة . لقد كان على المعارضة وقد أثبتت وجودها في الشارع وضمنت التأييد الشعبي لهما أن تبتعد عن سياسة المواجهة في الشارع وأن تدعوا لانتخابات برلمانية تحت إشراف دولي ضماناً لنزاهتها وعندما تحوز الأغلبية البرلمانية ، وهو أمر كان متوقعاً بسبب إنخفاض شعبية الإخوان ، تسعى عندها إلى عزل الرئيس بالطرق الدستورية .
أن مصيبة مصر تكمن في عدم وجود نخبة سياسية واعية تقدم مصلحة مصر على مصالحها الذاتية . وأن رفض قطاع واسع من المصريين لحكم الإخوان لم تستطع المعارضة ترجمته إلى إطار سياسي متماسك فكان دخول الجيش على خط المواجهة وحسم الأمر.
إن الأمل معقود على قيام القوى المدنية المصرية بالخروج من نشوة الإنتقام وإدارة المرحلة الانتقالية بشكل يضمن استيعاب جميع الأطراف في العملية السياسية الجديدة على هدي من الواقع الجديد وتوازناته دون إقصاء أحد حتى لا تتكرر تجارب المرحلة السابقة وأن نظرة واحدة إلى العراق كفيلة بمعرفة ما يترتب على محاولة إقصاء أي فصيل عن المشاركة السياسية . كما أن سرعة إنهاء المرحلة الانتقالية والوصول إلى نموذج سياسي ديموقراطي حقيقي يدعم مشاركة الجميع في بناء مصر جديدة بعد سقوط تجربة الديموقراطية الوليدة أمر مهم حتى لا يُترجم الأمر على أنه محاولة من الجيش للاستئثار بالسلطة إلى الأبد. لقد ضيعت مصر فرصة حقيقية للنهوض واللحاق بركب التطور عندما تولى الجيش الحكم عام 1952 والسبب رغبة الاستحواذ والإقصاء التي أدت إلى تهميش كامل لمكونات المجتمع المصري.
الخوف أن حركة الجيش الأخيرة ـ بغض النظر عن دوافعها ـ ستعزز مقولة الظلم التاريخي من قبل النخب السياسية للإخوان وستعزز نزعة التطرف لدى أتباع التيارات السياسية الإسلامية بدعوى أن النخب السياسية لن تسمح بمشاركة حقيقية في العملية الديموقراطية مما قد يدفع بعضاً منها ومعها أقسام من تيار الإسلام السياسي إلى العنف.
إن ما يسمى بتيار الإسلام السياسي وما يضمه من أحزاب وحركات ليس وليد ما يسمى بالربيع العربي. وإنما هو تيار يمتد بجذوره إلى عقود ولا يمكن شطب تاريخ كامل من الوجود الفكري لعناصر هذا التيار. ومحاولة إقصاء عناصر هذا التيار سيدفع أطرافه أو بعضاً منها إلى تحكيم السلاح طالما أن أبواب العملية السياسية موصدة أمامهم بالإقصاء.
ومن ناحية أخرى فإن خسارة الإخوان لحكم أكبر دولة عربية بعد ثمانون عاماً من المحاولات المستميتة بعد أن جاءهم على طبق من ذهب للوصول إليه لابد وأن تثير الكثير من التساؤل في كوادر الإخوان حول صواب السياسات التي يتبناها قادة الجماعة والتي أوصلت بهم إلى هذا الدرك .
أن الأمر يتطلب مراجعةً فكرية ً شاملةً لمنهج الإخوان وعملهم والتساؤل بجدية عن سبب كراهية قطاعات واسعة من المصرين لهم وعن عدم قدرتهم على الاستمرار في الحكم لأكثر من سنة وهم أكبر الجماعات وأكثرها تنظيماً . وفي العمل السياسي فإن الحزب أي حزب عندما يخسر الانتخابات يتوارى قادته عن العمل لصالح جيل آخر جديد يضفي على الحزب مفهوماً جديداً من الفكر والعمل . وقيادة الإخوان الحالية مسؤولة عن الواقع الكارثي الذي أوصل بالجماعة إلى هذا الدرك . لقد كان المطلوب من الإخوان التعايش والمشاركة والقبول بنظام ديموقراطي بعد فوزهم في الانتخابات إلا أن العقلية المثقلة بالمحن والحصار لم تستطيع التعامل مع هذا الواقع فخسر الشعب المصري أول تجربة ديموقراطية حقيقية في الوطن العربي. وأن قيادة الإخوان مطالبة بتحمل مسؤوليتها التاريخية أمام كوادر الجماعة والتنحي لصالح جيل جديد وربما فكر جديد يكون أقدر على معرفة متطلبات الواقع والتحولات من حوله والتعامل معه . فقيادات الإخوان الحالية خارجة من رحم تجربة تاريخية لم يعد لها اليوم وجود في أرض الواقع . وإما أن تدرك هذه القيادة خطئها وتقبل بالتنحي والمراجعة مما قد ينتج فكراً وشكلاً جديداً لجماعة الإخوان بمرئيات محدثة بحيث تغدو الجماعة قوة وطنية بين أخرين ملتزمة بالمشروع الوطني مستعدة للتعاون والتنازل وقبول أنصاف الحلول استعداداً للجولة القادمة من بناء الدولة المصرية الحديثة. وبحيث تبتعد عن توظيف الدين لغايات سياسية والتركيز على الإسلام كهوية وانتماء وقيم وإما أن تتفاعل التناقضات الداخلية في الجماعة مما قد يؤدي بها إلى نهايتها المحتومة ويشكل نهاية لحقبة ومفهوم الإسلام السياسي بالشكل الذي تبنته وروجت له جماعات الإسلام السياسي .
لقد أسقط الجيش المصري بضربة واحدة ليس فقط حكم الإخوان بل على المدى المنظور المؤسسة الدينية الرسمية والليبرالية المصرية وكذلك النموذج الغربي للديموقراطية في المنطقة العربية . لقد أعادت حركة الجيش في 30 يونيو عقارب الساعة في مصر إلى أجواء ما بعد الانقلاب على الملكية عام 1952 حينما أنتج ذلك الانقلاب ثلاث قوى متصارعة : الجيش والإخوان وليبرالية مفلسة.
خاص لــ (الهتلان بوست)