إعلامي سعودي
في فرنسا وألمانيا وعدد من الدول الأوروبية يعتبر الترويج لفكر النازية جريمة يعاقب عليها القانون، والسبب ليس لأن الفكر المعارض محرم فيها إنما لأن هذا الفكر تحديدًا يهدد السلم الاجتماعي ويثير النعرات. وهناك من يرى أن الترويج للفكر الإسلامي المتطرف، مثل «داعش» و«القاعدة»، لا يقل خطرًا عن النازية، ولا بد من تصنيفه في خانة الأفكار المحرم تسويقها، فلا تباع كتبه، ولا تدرس مناهجه، ولا يسمح له بأي نشاطات مجتمعية أو دينية. لكن بين المفكرين والسياسيين هناك من يخشى من الخلط بين الفكر الإسلامي المتطرف والإسلام كديانة، ولا ننسى أن المسلمين هم أنفسهم الضحية الأولى في حرب التطرف والمتطرفين.
السؤال كيف يمكن التفريق بين الفكر المتطرف الذي يؤدي بصاحبه إلى ركوب سيارة ودهس الناس لأنه يعتبرهم كفارًا، والإسلام، دين المليار إنسان في العالم؟ من الناحية النظرية الفارق واضح، ويمكن اعتبار كل من يدرس العقائد المكفرة الداعية لإيذاء من لا يؤمن بها، أو لا يطبقها، متطرفًا تجب معاقبته. أما عمليًا فليس معقولاً اعتبار من لم يرتكب جريمة بعد مجرمًا تجوز معاقبته.
وفي كل مرة ترتكب جريمة بشعة تزداد الضغوط على السياسيين والمشرعين بوضع قوانين تجيز ملاحقة المتطرفين من المسلمين، والحد من بناء المدارس والمساجد. وكما حدث في المرة الماضية، أيد الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند قرار إسقاط الجنسية أو منعها عن المتورطين في الأعمال الإرهابية ومن له علاقة بهم، لكنه تراجع لاحقًا بعد قراءة الوضع والقوانين. ومن المتوقع أن تعلو الأصوات من جديد التي تطالب بملاحقة المتطرفين بدلاً من انتظار جرائمهم ثم القبض عليهم، ولن يستطيع السياسيون الرفض، خاصة بعد وقوع جرائم إرهابية بشعة كما شاهد العالم جثث المارة التي دهسها الإرهابي في مدينة نيس الفرنسية، وهي ليست الأولى من هذا النوع، فقد سبقه إلى هذا السلاح إرهابي آخر دهس بسيارته أحد عشر من المارة في مدينة ديجون الفرنسية قبل عامين.
في مجتمع يتلظى بالإرهاب، كفرنسا اليوم، من الطبيعي أن ترتفع المشاعر الغاضبة، وخاصة من الغالبية التي لا تفرق بين المسلمين والمتطرفين منهم، ولن يقبلوا بأقل من سن قوانين تلاحق التطرّف بشكل عام. السؤال المحير، كيف يمكن التمييز بين المسموح والممنوع تدريسه والوعظ به بين المسلمين من أجل عزل المتطرفين وأفكارهم وتحصين الأغلبية المسلمة وحماية كل المجتمع؟
هنا يتطلب الأمر من المفكرين الإسلاميين أن يقدموا مشروعهم، إسلامًا يدعو للسلام ويقبل التعايش يتم تأصيله من النصوص المقدسة في القرآن والحديث.
هناك الكثير من الذين ألفوا كتبًا وقدموا دراسات عن الاعتدال في الإسلام، لكن هذه الأعمال لم تتحول إلى مشاريع تعليمية وثقافية ملزمة للجميع ضمن المناهج الأساسية. السبب في إهمالها، وفشل دمجها مع أنظمة التعليم العامة، أنه لا يوجد مشروع للتغيير والتصحيح. كل ما تم في السنوات الماضية تحت عنوان إصلاح مناهج التعليم ومنابر المساجد منع ما يدعو بوضوح للتطرف والعداء للآخرين. إنما لم يقدم لهم الطرح الإسلامي البديل الذي يحصنهم ضد الفكر المتطرف الذي يروج له خارج المسجد والمدرسة الرسميين. في الإسلام يفاخر أهله بأن الدين المعاملة، والإسلام بالفعل يعظ داعيًا للأخلاق الحميدة، من الرحمة بالضعفاء، والرفق بالناس، والتيسير على المعسرين، وتعظيم خطورة القتل، بما في ذلك الطيور والحيوانات إلا لحاجة، وينهى عن الظلم والغدر. إنما، وخلال صعود الفكر الديني المتطرف، بعد سقوط الفكر القومي المتطرف ووصول الخميني للحكم في إيران، قام منظرو الأحزاب الدينية بتسويق مفاهيم الصدام مع غير المسلمين، وتكفير المسلمين المعتدلين ضمن إرهاب فكري مماثل للنازية والشيوعية. خلال ثلاثين عامًا نجحوا في بناء منهج متطرف غلب على التفسير المعتدل للإسلام، ونتائجه نراها بين تنظيمات إرهابية أو جماهير تصدق بأن المتطرفين يعبرون عن الإسلام الصحيح ويدافعون عنه.
بعد جريمة نيس الوحشية، وما قد يليها من جرائم أخرى ترتكب لاحقًا، فإن الثمن سيدفعه ملايين المسلمين الأبرياء الذين سيتم التضييق عليهم ما دام لا أحد يتقدم لتبيان الفارق بين المسلمين والمتطرفين وتقسيمهم قبل أن يُشملوا ظلمًا بالتصنيف.
المصدر: الشرق الأوسط