كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية
بينما كانت تشتعل حرب البوسنة، التي امتدت طوال أربع سنوات قاسية، بكل ما كان فيها من قتل وقصف ومذابح واغتصاب ممنهج للنساء ودمار لمدن تاريخية وتطهير عرقي وتهجير (والمقاربة هنا جلية مع الحرب في سورية)، لم تتوقف لحظةً العملية الديبلوماسية المملة والمسوفة، التي سعت لحلٍّ سلمي بين المتقاتلين، اجتماعات ومفاوضات بين الأميركيين والأوروبيين من جهة، والروس الذين كانوا يدعمون الجانب الصربي المعتدي ويقدمون له شتى المبررات (تاريخ يعيد نفسه في سورية). في الوقت نفسه وعبر قنوات سرية، كان السعوديون والأتراك والماليزيون والسودانيون، بل والإيرانيون أيضاً يُرسلون الأسلحة لإخوانهم في البوسنة.
كل يوم كانت ثمة قصة للإعلام: مذبحة سوق سراييفو الشهيرة.. حصار موستار.. تدمير جسرها الشهير.. اجتماع في واشنطن أو فيينا.. تهديد بإحالة القيادات الصربية إلى محكمة الجنايات الدولية.. قرار بحظر السلاح عن كل الأطراف.. مجاهدون عرب يغرون كتّاب أعمدة في الصحف الأوروبية للتحذير من قيام جمهورية إسلامية أصولية في قلب أوروبا، في مقابلهم النازيون الجدد من ألمانيا والسويد ينضمون إلى الكروات في حربهم ضد المسلمين في بداية الحرب، ويعترفون لاحقاً بأنهم شاركوا في مذابح (مقاربة هنا مع مشاركة «حزب الله» والأصوليين الشيعة مع النظام ضد الثورة).
أحياناً كانت تلوح في الأفق لحظات توحي بأن ثمة مخرجاً للأزمة بعد اجتماع بين وزيري خارجية روسيا الاتحادية الناشئة وقتذاك والولايات المتحدة، ولكن سرعان ما تتلاشى الآمال. كان الأوروبيون يُظهِرون اهتماماً، بل أرسلوا حتى قوات حفظ سلام، ولكنهم كانوا يتحاشون المواجهة مع الصرب حتى عندما تجري مذبحة هائلة تحت أبصارهم. كان مسلمو البوسنة الحلقة الأضعف، فتحالف حتى الكروات الذين يكرهون الصرب ضدهم لضم بعض من أراضيهم الى جمهوريتهم الناشئة، ولكن صمود المسلمين أدى إلى أن يحترمهم العالم الغربي الذي كان سيقبل باقتسام الصرب والكروات جمهورية البوسنة لو لم يصمد المسلمون، على رغم أن كل الظروف والاحتمالات كانت ضدهم. إنه العالم نفسه الذي كان مستعداً أن يعيد بشار الأسد إلى رحابه لو انتصر في صيف 2011 على شعبه.
الآن يبدو أن ثمة لحظة فارقة في أفق الصراع، فالقوتان العظميان اتفقتا على ضرورة التوصل إلى حل سلمي، فبدأتا بالضغط على النظام لتشكيل فريق مفاوض تقبله المعارضة، ثم سيفرضون على المعارضة أن تقبله. مَن المستعد أن يراهن أن مسعى كهذا يمكن أن ينجح؟ إذا افترضنا أن المعارضة السورية لم تنقسم، أو قبلت على مضض بتكليف زعيمها معاذ الخطيب الذي تزداد شعبيته بفضل صراحته واستعداده أن يقود، فيترأس فريقها إلى مفاوضات تجرى في موسكو، لمعالجة عقد النقص الروسية المستفحلة، يجلس أمامه وليد المعلم وبثينة شعبان، ولا بد من اثنين على الأقل يمثلان المنظومة الأمنية الأخطبوطية في سورية، ولا بد من أن يكونا من الطائفة العلوية. عن يمين الخطيب بعض قيادات «الجيش الحر» من الداخل وممثلون للأقليات، علوي ومسيحي وهؤلاء موجودون في صفوف الائتلاف، «الإخوان المسلمون» لن يصروا على التمثيل، فهم يراهنون على الداخل والمستقبل. من الضروري لإظهار جدية المجتمع الدولي أن يكون على رأس الطاولة وزيرا الخارجية الأميركي والروسي، وبينهما الأمين العام للجامعة العربية ومبعوث الأمم المتحدة الأخضر الإبراهيمي.
أول بند سيكون بالطبع وقف إطلاق النار، ستقبل به المعارضة، أما وفد النظام فسيحاول أن «يتشاطر» كما لو أنه في حوار تلفزيوني، سيقول أحدهم إن الدولة مسؤولة وفق الشرعية الدولية عن حماية أمن مواطنيها، وإنهم سيقبلون بوقف إطلاق النار، وعليه يجب أن يحتفظوا بحق الرد في حال تعرضت منشآت الدولة أو المواطنون «لاعتداء من العصابات المسلحة»، حينها لا بد من أن «يشخط» الوزير الأميركي جون كيري بوضوح ويقول إن النظام هو الذي يقتل، وإنهم هنا طرف وليسوا ممثلين لدولة، ثم يضيف أن وقف إطلاق النار ستتم مراقبته من بعثة على الأرض وعبر الأقمار الاصطناعية، لتحدد من الذي سينتهك الاتفاق. لا بد من أن يكون ثمة اتفاق مسبق على ذلك بينه وبين نظيره الروسي لافروف حتى لا يختلفا أمام الكاميرات، فلا معنى لاتفاق وقف إطلاق نار من دون آلية أممية لمراقبته ومعاقبة منتهكيه، ويشمل ذلك القصف بالطائرات وصواريخ «سكود» قبل معارك الزواريب التي تصعب السيطرة عليها تماماً.
وفد النظام يعلم أنه إذا تم الاتفاق على قرار بوقف إطلاق النار يضمنه قرار أممي يصدر عن مجلس الأمن، فإن ذلك يعني نهاية النظام، فحينها عليه الانتقال إلى البند الثاني وهو إجراءات نقل السلطة إلى حكومة انتقالية، فالنظام عاش بالبندقية ولن يستمر من دونها، إنه يعلم ذلك.
السلام يعمل لمصلحة المعارضة، وليس النظام، ففي اللحظة التي يتوقف فيها قصف الدبابات والقصف الصاروخي والقنص في المدن الثائرة، ستشتعل ثورة شعبية من جديد حتى في المناطق التي لا تزال تحت سيطرة النظام، بل حتى دمشق التي تبدو موالية في الغالب ستعود إليها أجواء الربيع العربي، هذه الثورات رأيناها في مصر وتونس واليمن. إنها شعبية تتحرك من دون زعيم، قد تتوجه نحو المقار الأمنية تحرقها، نحو القصر الرئاسي وتعتصم أمامه وتصرخ في الرئيس إن كان لا يزال هناك وعاجزاً عن قراءة المشهد «ارحل.. ارحل».
هل يمكن أن يتحول الجيش السوري الطائفي الذي استمرأ القتل، أن يتحول فجأةً وبعد «اتفاق السلام» إلى «جيش مصري» يحتضن الأطفال، ويسمح للمتظاهرين بالتقاط الصور التذكارية، وهم يعتلون دباباتهم؟ أشكك في ذلك، بل أشكك في أن يوافق لافروف على أن يصدر اتفاق وقف إطلاق النار بقرار من مجلس الأمن، وهو قرار لن يصمد إن لم يصدر بضمانة دولية تحت البند السابع.
إذاً ستستمر الحرب التي بدأت «تطفح» إلى خارج سورية، إلى العراق ولبنان وتركيا (قامت الأخيرة بعملية خاصة الأسبوع الماضي داخل سورية لتعقب عنصر استخبارات سوري فجّر سيارة مفخخة في معبر باب الهوى داخل الأراضي التركية). أما الأردن فتورطه «السري» يزداد كل يوم. سيستمر الزحف البطيء نحو دمشق، ويتبادل النظام والمعارضة السيطرة على بابا عمرو في حمص، وتستمر دول المنطقة في تسليح المعارضة، وستدخل على خط التسليح دول غربية لعمل توازن بين النظام والمعارضة مثلما قال وزير الخارجية البريطاني وليم هيغ، ويزداد تدفق المغامرين الشيعة من العراق، وعناصر «الحرس الثوري» و»حزب الله» على سورية لإضفاء بعد طائفي على الصراع، ومثلهم مغامرون سعوديون وشيشان وأتراك ومصريون وليبيون، بعضهم يأتي إيماناً بالحرية، وآخر يبحث عن الدولة الإسلامية المفقودة.
أو أن تأتي لحظة رئيس شجاع مثل بيل كلينتون ليأمر بقصف مواقع القوات الصربية مثلما حصل في 30 آب (أغسطس) 1995. بعد أسبوعين رضخ الصرب وتخلوا عن صلفهم وغبائهم وتوجّه بشار الأسد… عفواً سلوبودان ميلوسوفتش إلى دايتون الأميركية ليوقع بعد شهر اتفاقاً ينهي حرباً كان يمكن إيقافها قبل أربع سنوات وقبل تدمير مدن البوسنة التاريخية وقتل 200 ألف مواطن، واغتصاب 50 ألف امرأة.