كاتب بحريني
في أي مدينة أوروبية عريقة بإمكانك أن تشرب فنجان قهوتك في مقهى جلس عليه أبطال روايات كبرى قرأتها، أو تتناول غداءك في مطعم من المطاعم التي مرّ عليها هؤلاء الأبطال. وبإمكانك أن تعثر في سانت بطرسبورج على أماكن دارت فيها أحداث روايات ديستوفسكي وتولستوي وغوغول وسواهم، لو زرتها لوجدت الكثير من التفاصيل التي وردت في الروايات باقية على ماهي عليه، فتنتابك الغبطة الآتية على الأغلب من الشعور بأنك تقيم، تلك اللحظة، في زمنين: ماضٍ وحاضر.
ما يقال عن سانت بطرسبورج يمكن أن يقال عن باريس ولندن وبرلين، بل إن الناس ما زالت تعرف الزاوية التي كان جان بول سارتر يفضل الجلوس فيها في المقهى الذي يتناول فيه إفطاره، حيث يتحلق حوله المريدون.
يحرص القائمون على تلك المدن أشد الحرص على العناية بتلك الأماكن وذاكرتها، ليس فقط لأن الأدباء أو الفنانين مروا فيها، وإنما ضمن استراتيجية شاملة للحفاظ على ذاكرة المكان، فالمقهى يظل مقهى، والمطعم كذلك، حاملاً الاسم نفسه الذي كان له منذ قرن أو قرنين.
من عرف بيروت في أزمنة سابقة يذكر ولا شك تلك المقاهي الجميلة في شارع الحمرا التي كانت مقصد أدباء ومثقفي تلك المرحلة، التي شهدت سجالاتهم ونقاشاتهم وربما خصوماتهم أيضاً، لكن هذه المقاهي اختفت اليوم، ليس فقط لأن روادها رحلوا عن الدنيا أو تغربوا، ولم تعد مقصداً لأدباء اليوم، بل لأن محالها تحولت إلى «بوتيكات» أو محال للوجبات السريعة. وحين تحول مقهى «الهورس شو» الشهير على أحد «مفارق» الحمرا إلى محل لبيع الملابس منذ نحو عقدين أقام المثقفون والأدباء له المراثي، لكنها كانت أعجز عن أن توقف ما جرى وتعيد لهم مقهاهم.
حفزني على هذه الوقفة ما كتبه الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في العدد الأخير من مجلة «دبي الثقافية» عن مقهى ريش الشهير في وسط البلد بالقاهرة، الذي يحتل حيزاً عزيزاً في الذاكرة الثقافية والفنية المصرية، حيث كتب مذكراً إيانا بالتاريخ العريق لهذا المقهى الذي بدأ حياته في السنة التي دخلت فيها مصر مرحلة جديدة من تاريخها مدة الحرب العالمية الأولي، ليصبح لا مجرد مقهى وإنما ورشة عمل وفكر انخرط فيها خيرة مثقفي مصر وفنانوها.
صاحب هذا المقهى رحل ويخشى حجازي أن يلحق المقهى العظيم بصاحبه فيختفي، متسائلاً ما إذا كان بالإمكان إنقاذه قبل فوات الأوان.
المصدر: الخليج