في يومٍ ما، كانت المكتبة مكانًا لقراءة الكتب وإجراء بعض الدراسات، لكن دور المكتبات اليوم، بوجود محركات البحث، ومنصات التواصل الاجتماعي، والذكاء الاصطناعي، اختلف تمامًا، فهي الذاكرة الباقية لكل أمة، وهي جسر وصلٍ حضاري وفكري وثقافي وفني بين أي أمة وباقي شعوب العالم. وإذا كان المكتوب يُقرأ من عنوانه، فإن مكتبة «محمد بن راشد»، تدلُّ على نفسها لكل من ينظر إليها وحيثما كان، فلقد جاء تصميمها المعماري على هيئة صفحتي كتاب مفتوحتين تملآن الفضاء بقرب مياه بحرٍ يزغرد بزرقته!
بدعوة كريمة من «مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة»، شاركت في الاجتماع الخامس للجمعية العمومية لـ«منتدى الجوائز العربية» ممثّلًا عن جائزة «الملتقى للقصة القصيرة العربية»، وكم سعدتُ بأن تحتضن مكتبة محمد بن راشد محاضرة عن روايتي الجديدة «دوخي.. تقاسيم الصَبا»، بمشاركة الأستاذ عبدالحميد أحمد من مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية.
تبدو المكتبة للرائي هادئة تُجاور موجات البحر، لكن لحظة يضع رجله داخلًا يشعر بهيبة المكان، المفتوح على إضاءات طبيعية، والمُطعّم بأخشاب بُنّية دافئة تدُخل الألفة على روح أي زائر.. كعادتي في أي محاضرة لي، أحضر باكرًا كي أمدُّ شيئًا من الود بيني وبين المكان، فتألفه روحي.. لحظة خطوت داخلًا المكتبة، وقفتُ حائرًا ومبهورًا أمام جدار عريض مغطّى بالكتب ومرتفع بعدد سبع طوابق! طلبتُ من المصوّر أن يلتقط صورةً لي، مرددًا بيني وبين نفسي: كم يبدو الإنسان ضئيلًا أمام كنوز المعرفة البشرية!
المحاضرة تتناول سيرة الفنان والمُلحّن المبدع «عوض دوخي»، لذا سرعان ما عبق المكان بمحبّي فنه، وبحضور أهل المكتبة، وفي مقدمتهم سعادة الأستاذ محمد المر رئيس مجلس الإدارة، والدكتور محمد المزروعي عضو المجلس، والأستاذ خالد الزعابي القنصل العام لدولة الكويت في دبي، ووجوه كثيرة جاءت لإعادة وتجديد وصلها بعوالم المطرب دوخي، من خلال مناقشة رواية «دوخي.. تقاسيم الصَبا». ولقد مسَّ قلبي حضور باسم عوض دوخي مشاركًا باستحضار حكايات والده.
بدا اختيار إدارة المكتبة موفّقًا جدًا بأن تكون جلستنا أمام جدار الكتب المرتفع، وكأنه يحتضننا، وكأن المحاضرة جزءٌ من كتاب سيُضاف لرفوف المكتبة. قدّمني الأستاذ عبدالحميد، وكان إلى جانبي شابان إماراتيان أحدهما مطرب يحمل عودًا والآخر يحمل الإيقاع، واللذان سرعان ما ملآ المكان بترديد مقاطع من أغاني دوخي، لتهدأ أنفاس المكتبة، وتصيخ رفوف كتبها السمعَ لروح صوتٍ شجي طالما تغنى به أبناء الخليج.
سريعًا مرّت الأمسية، بمناقشاتها وأغانيها ومداخلاتها، وأخذتْ خطوات الأصدقاء طريقها تغادر المكان، لكنها مكتبة محمد بن راشد، بهيبتها وحضورها الآسر ودفئها بقيت تملأ قلبي وخاطري!
المصدر: القبس