مليارديرات صناعة التكنولوجيا يريدون تغيير العالم

منوعات

ريتشارد ووترز من سان فرانسسكو

استنبات الهمبرجر في أنابيب الاختبار. التنقيب عن المعادن الثمينة في الكويكبات. الذهاب في رحلة على مستوى الأرض أسرع من الصوت، من لوس أنجلوس إلى سان فرانسيسكو خلال أقل من 30 دقيقة.

الأفكار المستقبلية التي تتفتق من الخيال الخصب لبعض من أغنى أصحاب المشاريع الأمريكيين في التكنولوجيا الممولة من بعضهم، في حالات قليلة من ملياراتهم الخاصة، بدأت تظهر كأنها مغرقة في الخيال.

ربما كان هذا هو الهدف بالضبط. فقد أصبح اختبار خفة ظلهم وثرواتهم يُرى على أنه علامة فخر واعتزاز بالنسبة لكبار الأثرياء الجدد، الذين حققوا ثرواتهم من صناعة التكنولوجيا، الذين كسب أغلبهم أمواله من بيئة الإنترنت الاستهلاكي قليلة الكلفة. وأصبحت نخبة من أصحاب المشاريع، مثل جيف بيزوس من أمازون، وإيلون ماسك الذي حقق ثروته من “بي بال”، وسيرجي برين الشريك في تأسيس “جوجل”، تجسد عهداً جديداً من الطموح التكنولوجي.

ويقول بيتر ديامانديز، المؤسس المشارك في مشروع استخراج المعادن من الكويكبات، المسمى بلانيتوري ريسورسيز، ومقدم جائزة إكس برايز لأول رحلة فضائية يقوم بها القطاع الخاص على حدود الفضاء الخارجي، دون الغلاف الجوي: “الناس الذين يتبنون تحديات عالمية عظمى يهتمون بالأفكار الكبيرة”.

وبعد أن أحدثوا الاضطراب في صناعات بأكملها، أصبحوا الآن “مهتمين بأكبر مشكلات العالم. فبالنسبة إليهم أكبر التحديات في العالم هي أيضاً أكبر الفرص في الأسواق العالمية”، كما يقول ديامانديز.

والمفارقة أن انفجار هذه الطموحات يأتي في وقت بدأ يثير فيه كثيرون من وادي السليكون أسئلة حول نهاية العصر الذهبي للابتكارات التكنولوجية.

ولخص كل هذا التشاؤم منذ سنتين، تايلر كوين، الأكاديمي الأمريكي، الذي جادل بأنه تم التقاط كل الفواكه القريبة من الثورة الرقمية، ولم يُبذل سوى القليل جداً من الجهد في تحقيق الاختراقات الكبيرة التالية.

الموضوع نفسه ردده تكنوقراطيون مثل بيتر ثيل، وهو من أوائل التنفيذيين في “بي بال”، وأول من استثمر في فيسبوك من خارجها. ضرب ثيل على وتر حساس في وادي السليكون، عندما اشتكى من أن أصحاب رأس المال المغامر فقدوا رغبتهم في الأفكار المغيرة للعالم، وفضلوا العمل على أرض آمنة ليحرزوا تقدماً قليلاً في مجال تطبيقات الجوال وشبكات التواصل الاجتماعي.

مع ذلك تشير العناوين الكبيرة في الفترة الأخيرة إلى أن هذه النظرة مبالِغة في تشاؤمها.

وفي الآونة الأخيرة كان الدور لسيرجي برين، من “جوجل”، ليعرض أحد المنتجات التي نشأت من الاقتران الحديث للعلوم المتقدمة بالثروة الشخصية الهائلة والطموح المنفلت من عقاله.

كان العرض عبارة عن أول تذوق علني يجري في لندن، للحم بقر تم استنباته في مختبر، وهو مشروع موله برين من ثروته الخاصة البالغة 23 مليار دولار.

وقال برين أثناء ظهوره في فيديو وهو يشرح المشروع: “إذا لم ير بعض الناس ما نعمله على أنه خيال علمي، فإن ذلك لم يكن على الأرجح تحويلياً بما فيه الكفاية”. وهي جُملة يمكن أن تلخص طموحات المغامرات العلمية الجديدة.

ويقول مؤيدو هذا البحث الذي يهدف لإحداث اختراقات كبيرة في التكنولوجيا، إن نتائجه ستؤدي إلى نشوء عهد من الاكتشافات التي تشكل صناعات المستقبل، مثل الاستكشاف الخاص للفضاء، وأشكال جديدة من وسائل النقل، والروبوتات، وعلاجات جديدة، ومواد متطورة. ومع هذا يمكن أن ينتهي الأمر إلى عهد مميز بغطرسة جيل من أصحاب الثروة الهائلة.

ويعترف ديامانديز بأن النكسات التي لا مفر منها يمكن أن تثير الشكوك حول فاعلية هذه الطريقة في حل المشكلات على نطاق واسع، ويقول: “أعتقد ستحدث بعض حالات الفشل الهائلة. لكنك إذا لم تفشل، فأنت لا تقدم أفكاراً كبيرة”.

ووفقاً لنخبة من العاملين في التكنولوجيا، وكثيرون منهم في الساحل الغربي للولايات المتحدة، لا بديل عن التفكير الكبير جداً. فما يمكن رؤيته على أنه غرور ربما يكون ضرورياً للاستجابة إلى نقص خطير في الطموح الذي ترسخ في باقي الطبقة السياسية وأهل الأعمال.

وتم سحب التمويل الحكومي من بعض مجالات الأبحاث المتقدمة. كما أن المنظمات التي كان من الممكن في الماضي أن تملأ الفجوة – مجموعات البحث القديمة الخلاقة، مثل مختبرات بيل التي أنشأتها “أيه تي آند تي” – تقلصت وضمرت في الوقت الذي عملت فيه المنافسة الكبيرة على تدمير الاحتكارات التي كانت في يوم ما مرتاحة، ودمرت قدرتها على تمويل الأفكار بعيدة المدى.

ومع هذا يجادل آخرون بأن الحوافز المقدمة للابتكارات القوية المؤثرة لم تتغير كثيراً، وأن تاريخ الاكتشافات الضخمة التكنولوجية مثل الهاتف، يبين أنها تُركت دائماً لأفراد من أصحاب المشاريع لإحداث متغيرات حقيقية في اللعبة الكبيرة.

ويقول ديامانديز: “الحكومات تشعر بالقلق من تحريات الكونجرس، وهم قلقون من الفشل، والشركات الكبيرة مهتمة بأسعار الأسهم”.

والتكنوقراطيون، سواء كانوا متعجرفين أو مثاليين، أو كانوا خليطاً من النوعين، يرون أنفسهم أنهم من يحل مشكلات العالم الاقتصادية والاجتماعية عن طريق إحداث اختراقات واسعة النطاق. والمثال على ذلك برين الذي جذبته فكرة استنبات لحم البقر في المختبر، التي سينتج عنها فوائد بيئية ناتجة عن تقليل أعداد الأبقار في العالم، والتقليل من المخاوف حول رعاية الحيوان.

ويقول جون سيلي براون، الذي كان في السابق مدير مركز الأبحاث المشهور لشركة زيروكس في وادي السليكون، الذي نُسب إليه كثير من الاكتشافات الكبيرة التي أدت إلى الحوسبة الشخصية: “نحن نتحرك نحو عصر يصبح فيه الحديث حول الأشياء التي كانت تبدو مستحيلة مهماً بصورة عجيبة”.

وبحسب وجهة النظر هذه، فإنه بعد أن عملت الإنترنت، أو المنافسة العالمية على إحداث اضطراب في الصناعات القديمة، أصبحت الميزة التنافسية لدولة متقدمة مثل أمريكا مرتبطة بشكل وثيق بقدرتها على تحقيق إنجازات كبيرة في التكنولوجيا.

وبالرغم من احتمال أن تكون ثروات الأمم في النهاية على المحك، إلا أن الميل للتفكير الكبير أصبح مثل العلامة الشخصية المميزة لتفاخر طبقة أصحاب المليارات في قطاع التكنولوجيا.

وفي الآونة الأخيرة، خطا ماسك خطوة أبعد بعد أن حقق نجاحات مع السيارات الكهربائية ورحلات استكشاف الفضاء الخاصة، تمثلت في التعمق في الخيال العلمي، باقتراحه الهايبرلوب، وهي طريقة مواصلات فائقة السرعة مكونة من أنابيب محكمة الإغلاق تسير خلالها قمرات تحمل الركاب بسرعة 700 ميل في الساعة. وهو يدعي أن نظام المواصلات هذا سيكون أقل كلفة من حيث بنائه، وأكثر جاذبية للمسافرين، مقارنة بسكك حديدية مقترحة ذات سرعة عالية بين سان فرانسيسكو ولوس أنجلوس.

وإذا كانت هناك حاجة لمثل هذه الطموحات الشخصية العظمى التي تصل إلى أقصى أبعاد الخيال – وأحياناً تكاد تتجاوز الصدقية – من هؤلاء غير المؤهلين، فمن الممكن أن الوقت الحاضر هو الوقت المناسب لذلك.

ويقول بعض الخبراء إن نقطة نادرة في التاريخ التكنولوجي وصلت في وقت تبدو فيه الاختراقات التي تفوق التصور روتينية تقريباً، الأمر الذي يدفع بالطموح المنفلت وثروات أغنياء هذه الأيام من التكنوقراط، إلى ترك أثر دائم على العالم.

ويقول سيلي براون: “هذه لحظة لا تصدق من الزمن. هناك أشياء كنتُ أظن أنها مستحيلة قبل خمس سنوات خرجت إلى حيز الوجود، مثل السيارة التي تسير من دون سائق، التي طورها قسم الأبحاث المتقدمة والتطوير التابع لـ “جوجل”، في برنامج جوجل إكس”.

ويقول الباحثون إن الأدوات الجديدة التي استخدمت في البحث العلمي عجلت بعملية الابتكار. وأدت القدرة على تحليل مجموعات هائلة من البيانات واستخدام “التعلم المعمق” في أنظمة الكمبيوتر الذي يتكيف مع الخبرة، وليس الاعتماد على المبرمج البشري، إلى إحداث فتوحات ترواح بين الكشف عن عقاقير جديدة ومواد جديدة إلى الروبوتات التي لها قدرات أكبر على الوعي بالعالم من حولها.

ولا يوجد مكان يبدو فيه طموح أصحاب المشاريع أكثر وضوحاً من السباق الخاص نحو الفضاء، حيث تحرك بعض من أغنى مليارات الإنترنت لملء الفراغ الناتج عن تراجع الحكومة الأمريكية عن تمويل استكشاف الفضاء.

وخصص بيزوس – الذي اتبع الطريقة الاقتصادية القديمة في الأسبوع الماضي عندما اشترى صحيفة “واشنطن بوست” بمبلغ 250 مليون دولار – جزءاً من ملياراته ليجعل السفر إلى الفضاء ممكناً من ناحية الكلفة. وانضم إليه في هذا الجهد صاحبا المليارات في “جوجل”، لاري بيج وإيريك شميدت، وهما من بين الداعمين لمشروع ديامونديز الرامي لإطلاق صواريخ لاستخلاص الموارد المعدنية من الكويكبات السابحة في الفضاء.

من جانبه، وجه ماسك أنظاره نحو كوكب المريخ وبنى بالفعل، من خلال شركته سبيس إكس، أول صاروخ خاص يستطيع الوصول إلى مدار ويرتبط بمحطة الفضاء الدولية.

ويقول بول سافو، المقيم في سان فرانسيسكو والمختص في علوم المستقبل، إن هناك أشياء كثيرة مشتركة بين أصحاب مشاريع الفضاء والجيل السابق من المستكشفين. “فالفضاء التجاري يشبه تماماً عصر الاستكشافات العظيمة في القرن السادس عشر. وحالما تنتهي رحلة وراء حدود كشف سابق وتعود بنجاح، سيتبعها حتماً آخرون، ما يشكل سباقاً للحصول على ثروات جديدة لم يكن أحد يتصور إمكانية الوصول إليها من قبل”.

وحتى أكثر الفتوحات التي تبدو بعيدة الاحتمال هي الآن أقل بعداً مما يمكن أن تبدو عليه، وفقاً لمؤيديها. مثلا، تمت مناقشة فكرة الهايبرلوب التي جاء بها ماسك في الدوائر العلمية منذ عقود، وهي مرتكزة على التكنولوجيا الموجودة حالياً.

وبحسب سافو، الذي أجرى دراسة حول مفهوم الهايبرلوب في أوائل الثمانينيات، “الناس ضحكوا” من هذه الفكرة في ذلك الوقت. لكن يمكن تبديد الشكوك التي تحيط بفكرة ما، بمساندة صاحب مشاريع جسور حقق نجاحات في مجالات أخرى.

يقول جيفري فيفر، البروفيسور في كلية الدراسات العليا للأعمال في جامعة ستانفورد الواقعة في وادي السليكون: “الغرور مجدٍ أحياناً، فعندما تكرر قول شيء مرات كافية سيصدق الناس ما تقوله”، وهذا يمكن أن يؤدي إلى تدفق المال والموهبة إلى فكرة كانت تبدو في يوم من الأيام غريبة أو سخيفة “ويصبح الاعتقاد بالفكرة واقعاً”.

يأمل ديامانديز بديناميات مماثلة لتحقيق خطته بحصاد المعادن من الكويكبات. وهو يدعي أنه مثله مثل غيره من الطموحين والحالمين، لا يعتقد بوجود حاجة لقفزات تكنولوجية لإخراج فكرته لحيز الوجود، وأن رأس المال سيتدفق حالما يرى عدد كاف من المستثمرين أن بالإمكان تحقيق الهدف. مثل مشروع الهايبرلوب من ماسك، يعتمد كل شيء على الإبداع والتنفيذ.

ويعتقد ديامانديز ،نه مع وصول الحفر العميق في أوائل الثمانينيات ستصبح العوائد المحتملة من التنقيب في الكويكبات ضخمة في نظر الناس إلى درجة أن الموارد اللازمة للتغلب على التحديات التكنولوجية سيتم العثور عليها بالتأكيد في النهاية. ويقول: “بعض من هذه الكويكبات يحتوي على أصول بقيمة تريليونات الدولارات، فهل سيتحقق ذلك؟ أقول نعم بكل تأكيد”.

وأساطين الإنترنت الجدد ليسوا أول أصحاب مليارات يتناولون القضايا العالمية الملحة – رغم أن أساليبهم ونطاق طموحهم يجعلهم متميزين بالتأكيد. بيل جيتس، الشريك المؤسس لـ “مايكروسوفت”، بدعم من وارين بوفيت، دفع بمليارات من ثروته الخاصة لمكافحة وفيات الأطفال، إلى جانب جهود لتطوير اللقاحات للتصدي للأمراض المؤلمة والمقعِدة مثل الملاريا.

جيتس وبوفيت، شأنهما في ذلك شأن فائقي الثراء الذين سبقوهما “استخدما أموالهما لعمل الخير”، كما يقول سافو. لكن تابعيهم من أهل صناعة التكنولوجيا لديهم خطة مختلفة: “هذا الجيل من أصحاب المشاريع الفائقين يريد إطلاق صناعات جديدة”.

وإلى أن تبلغ الأحلام الطموحة للتكنولوجيا منتهاها، سيكون من المستحيل أن نعرف من الذي أفلح في إنفاق أمواله على خير وجه.

المصدر: الإقتصادية