كاتب و روائي سعودي
• كلما ولدت قصّة سيجلس على قارعة إحدى طرقاتها شيخٌ أحدب، اسمه “ما لا يقال”.. نعم، في كل قصة سيسحب هذا الـ “ما لا يقال” جذعاً على هيئة كرسي، ثم يشرع في الهمهمة بلا توقف، بينما الناس في كل قصةٍ يمرّون من جواره، وينظرون إليه بتعجبٍ وشفقة، وربما توشوش اثنان ما بينهما؛ “يا لهذا الكهل المجنون”، أما أقل القليلين في سائر القصص، فهم أؤلئك الذين ينصتون إليه، ويفكرون في الجحيم التي تلوّت فيها عظامه حتى انتهى به المطاف إلى هذا الجذع، وتلك القارعة.. وكيف صار هذا الكهل شبحاً شاحباً من قصّةٍ إلى قصّة!
• همهم “ما لا يُقال” مرةً، وفي قصةٍ معتادة، وهو جالسٌ على هيئة ملامة فقال؛ إنني مزعوجٌ من تفاقم المحتالين لهذا الحد! إنهم مهما عرفوا كيف تتشكل المصائر، فإنهم لا يشيرون لأحدٍ ناحية الأمام، بل يترامون التائهين فيما بينهم ليشغلوهم عن الحقيقة، وليغرقوهم في وديانٍ مشجّرةٍ بالوهم الذي يلبس العباءات التي تعبق بالدهون والأطياب، العباءات نفسها!.
• وفي قصةٍ من ذاك النوع المدجج بالتحولات، قال “ما لا يقال” بأسفٍ بالغ؛ إن الصادقين يتوارون خلف صمتهم، فلا يُقسمون لمن يلوذ بهم إنه لا يبدأ التعلّم، ولا تكشف المعرفة عن سرّتها إلا حين نكفّ عن أنانيتنا السفيهة، حتى ونحن نسأل ونبحث، حتى ونحن ننظر، ونسمع، ونقرأ، ونلمس! آخ.. لا تكشف المعرفة عن سرّتها في اللون والكلمات والغناء وسائر الحياة إلا عندما نتماهى في أدق تفاصيل هذا الكون الهائل!
• العجيب في القصص مهما تباعدت أن خيطاً، لا يكاد يُلاحظ، يربطها، كأن اللسعة التي تحرق إصبع طفلٍ في هذا العالم، تكبر معه ويتغير شكلها وملامحها، لتظهر بعد خمسين أو ستين عاماً في حكايةٍ أو ضحكة أو عناء، تظهر ولو في موقفٍ عابرٍ لثوان.
• هذا الخيط الممتد في أعمارنا تمشي فيه أفعالنا وفعائلنا، ويصير لها العمر والطبائع، ومن وقتٍ إلى وقت تتحين أفعالنا الفرص لتخرج إلى سطح حياتنا بصورةٍ أخرى، لتقول لنا إنها في خيط عمرنا لم تذهب، فالأيام كلها بما فيها، قد تختفي، لكنها لا تذهب!
• “ما لا يقال”.. هذا العجوز العظيم في قصصنا وأعمارنا، ليتنا نصيخ السمع لهمهمته، فهو الذي يواجهنا بما نخبئه عن الآخرين وعن أنفسنا، وهو الذي سيأخذنا أخيراً ليرينا مسارات حياتنا، وكيف يبدأ كل شيء وكيف يرجع مرةً ومرةً ومرة.. سيساندنا حتى تكشف المعرفة لنا عن سُرّتها!.
المصدر: الوطن اون لاين