كاتب وإعلامي من دولة الإمارات العربية المتحدة
لا أعتقد أن ثورة حظيت بتقدير واحترام العالم في العصر الحديث مثل ما حظيت به الثورة الفيتنامية. تعرضت فيتنام لسلسلة من الغزوات العسكرية من قبل فرنسا حتى أصبحت جزءاً من مستعمرة الهند الصينية الفرنسية. ومعروف أن أسوأ احتلال هو الاحتلال الذي لا يسيطر على مقدرات وخيرات الشعوب التي يحتل بلدانها فقط، وإنما يفرض على مجتمعاتها أنماطاً ثقافية تحدث تغييراً في هويتها الوطنية. وعندما قامت الحرب العالمية الأولى، استولت الإمبراطورية اليابانية على الهند الصينية الفرنسية، وقامت باستغلال موارد فيتنام الطبيعية. هنا تشكلت حركة «فيت مين» بقيادة «هو تشي منه» للتخلص من الاحتلال الياباني. وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وأعلنت الإمبراطورية اليابانية استسلامها، سعت فرنسا إلى استعادة مستعمرتها، فلقيت مقاومة من الحركة، وشكلت هزيمة القوات الفرنسية في معركة «ديان بيان فو» نهاية الاستعمار الفرنسي للهند الصينية.
ومع بداية اشتعال الحرب الباردة في خمسينيات القرن الماضي، حدث انقسام بين دول الغرب ودول الشرق، فقدمت الصين والاتحاد السوفييتي دعمهما لجمهورية فيتنام الديمقراطية التي أسسها «هو تشي منه» جاعلاً من هانوي عاصمة لها، بينما قدمت كل من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وفرنسا الدعم لدولة فيتنام التي عاصمتها سايغون. لكن الحرب الباردة سرعان ما تحولت إلى حرب ساخنة، وشهدت تصعيداً من قبل الرئيس الأمريكي جون كيندي أدى إلى تورط الولايات المتحدة في المعارك الدائرة بين فيتنام الشمالية وفيتنام الجنوبية، وبهذا وقعت في المستنقع الفيتنامي. استمر هذا التورط بعد اغتيال كيندي وكانت الخسائر فادحة، الأمر الذي نتج عنه معارضة واسعة للحرب في الداخل الأمريكي، وانخفاض كبير في معنويات الجنود الأمريكيين، وتضاعف معدلات الفرار من الخدمة العسكرية، وتصاعد المعارضة الدولية للتدخل الأمريكي في الشؤون الفيتنامية، حتى انتهى الأمر بتوقيع اتفاقية باريس للسلام في 27 يناير 1973، التي أُطلِق عليها «اتفاقية انتهاء الحرب واستعادة فيتنام».
خلال مقاومة الفيتناميين للاحتلال الفرنسي ثم الياباني، وللتدخل الأمريكي بين الشمال والجنوب، ظهرت أسماء لقادة عظام، تحولوا إلى أيقونات في قواميس المقاومة الشعبية للمحتلين. من هؤلاء القادة كان «هو تشي منه» الذي أصبح أول رئيس لفيتنام الشمالية، والجنرال «فون نجوين جياب» صاحب خطة معركة «ديان بيان فو» ضد الفرنسيين، وأول وزير دفاع في فيتنام بعد هزيمة القوات الأمريكية وإخراجها بفضيحة ستظل تتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل.
يقول «هو تشي منه» في حوار أجري معه: «لقد وقفت يوم إعلان الاستقلال أتحدث إلى الشعب الفيتنامي، وكنت أرتدي ملابس قديمة. كنت أرتدي بدلة كالتي أرتديها الآن، وكانت قديمة جداً لأنني حضرت من الأدغال مباشرة، وكنت أنتعل حذاءً مصنوعاً من مطاط عجلة سيارة. وقال لي بعض رفاقي: إن هذا المظهر قد لا يتناسب مع جلال المناسبة، فقلت لهم: هذا مظهر وحقيقة شعبي. هذا لباس العامل والفلاح الفيتنامي، وعندما يرتدي العامل والفلاح والجندي الفيتنامي لباساً أفضل فسوف أغير ملابسي». ويُروَى أن الجنرال «جياب» زار بيروت في السبعينيات من القرن الماضي، وكانت تسيطر عليها آنذاك فصائل فلسطينية ثورية. شاهد بطل الثورة الفيتنامية حياة البذخ والرفاهية التي يعيشها قادة تلك الفصائل، والسيارات الألمانية الفارهة التي يركبونها، والسيجار الكوبي الذي يدخنونه، والبدل الإيطالية الفاخرة التي يرتدونها، والعطور الفرنسية باهظة الثمن التي يتعطرون بها، وقارنها بحياته مع ثوار «الفيت كونج» في الغابات الفيتنامية، فقال لتلك القيادات دون مجاملة: لن تنتصر ثورتكم. سألوه: لماذا؟ فأجابهم: لأن الثورة والثروة لا يلتقيان.
نستعيد حديث زعيمي الثورة الفيتنامية الشهيرين، ويمر أمام عيوننا شريط طويل لقادة الفصائل الذين يناضلون منذ عقود وهم يرتدون أحدث البدلات، ويتعطرون بأنفس العطور، ويركبون أغلى السيارات، ويسكنون أفخم الفيلات، وينزلون في أرقى الفنادق، يمتلك أبناؤهم الشركات ويحتكرون الوكالات، وتتضخم أرصدتهم في المصارف. نستعيد صورهم وهم يتنقلون بطائرات خاصة بين عواصم الدول التي تدفع لهم ملايين الدولارات، تطالعنا سحناتهم وهم يقبلون أيدي ورؤوس الأسياد والآيات، بينما تظهر في خلفية الصورة مناظر الأطفال والنساء والأبرياء الذين يُقتَلون داخل الأراضي المحتلة كل يوم، والبيوت التي تُهدَم على رؤوس ساكنيها، ونتساءل مع الجنرال جياب: هل ستنتصر ثورة هؤلاء الذين يسمون أنفسهم مناضلين؟
لو كان الجنرال «جياب» بيننا لقطع ألسنة هؤلاء الذين يتاجرون بالقضية ويبيعون المغفلين الوهم دون ذرة من خجل.
المصدر: البيان