كاتب قطري
تابعتُ جلسات المنتدى الدولي للاتصال الحكومي الذي عُقد بإمارة الشارقة الأسبوع الماضي عبر الصحافة والإنترنت، على رغم أن السادة المنظمين قد وجَّهوا دعوة لي للمشاركة، إلا أن ظروفاً حالت دون ذلك.
وقد حضرت المنتدى شخصيات محلية وعالمية تداولوا شجون الإعلام والصحافة والمواثيق والحريات. وقد جاء في كلمة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة أن «مهنة الصحافة والإعلام لا تقل خطورة عن مهنة الطبيب، فخطورة القلم والمصورات أشد مفعولاً وأبلغ تأثيراً من المِشرط بيد الطبيب المرتعشة». مؤكداً سموه حقوق الإعلاميين التي يكفلها لهم القانون، والتي تمكنهم من حرية التعبير والنقد! وكذلك حرية الوصول إلى مصادر المعلومات، وحرية التحقيق دون التعرض لأسرار الناس الخاصة، مشيراً إلى حق الإعلامي بألا يكشف مصدر المعلومات التي حصل عليها بطريقة سرية، وله الحق في رفض الضغوط مثل التعليمات المباشرة أو غير المباشرة، في حال أن ظل ذلك في دائرة القانون.
وبصراحة، فهذه هي القيم التي يبحث عنها ويتمناها كل إعلامي عاقل وصاحب ضمير حيّ، يؤمن بالمهنية وبحقوقه وحقوق الآخرين. وهي تشكل ميثاقاً للعمل الإعلامي المهني الرصين القادر على تنوير الرأي العام وتقديم الخبر والمعلومة والإفادة بالطريقة الملائمة.
نعم، الإعلام أصبح يلعب دوراً أساسياً في حياة الناس، ويُنشئ أجيالاً، وقد يروّج أفكاراً، ويُحارب أفكاراً أخرى، ويبيع سلعاً ويرفض سلعاً أخرى! وبدون تطبيق المهنية بأصولها يبقى الإعلام «بوقاً» قابلاً للدعاية السياسية، ولن يصمد أمام التطورات التكنولوجية التي تجتاح العالم.
وهذا ما أكدته جلسات المنتدى المذكور، حيث أبرز المقولة التي ردَّدها الإعلاميون العرب منذ فترة طويلة، وهي أن «الإعلام الرسمي المُوجه لم يعد مقبولاً»! وأن الثقة قد تدنَّت في أداء بعض الحكومات، كما أشار إلى ذلك أيضاً رئيس المكسيك السابق «فيلبيبي كاليدرون»، وطرحَ رأياً مؤداه أن «السبيل الأمثل للوصول إلى التغيّر المنشود وبناء المصداقية لدى عامة الشعب ووسائل الإعلام هي من خلال ترسيخ الثقة بين مختلف الأطراف».
وفي واقع الأمر، فإن بعض الإعلام العربي الرسمي يعاني في هذه الفترة من أزمة ثقة مع الجمهور، لأنه لم يُجار التطورات التكنولوجية ولم يلتفت إلى وعي الجماهير وتنوع الخيارات أمامها، ما يجعلها على اتصال بكل جديد في عالم السياسة والاقتصاد والاجتماع، وبما قد يتناقض مع الرسائل الحكومية الرسمية! وظل هاجس الحظر والمنع والإقصاء من أدوات السلطة -في العديد من بلدان العالم العربي- وكأن بعض هذه البلدان تعيش خارج الكوكب! وصار أن دَرجَ بعض الإعلام الرسمي على بث رسائل فوقية رأسية، بحيث يبدو وكأنه مطلوب من المتلقي أن يتقبلها سلفاً مؤمناً بقدرها وقدَرهِ، دون أن يكون له رأي فيها، على رغم كونها قد تختص بحياته ومستقبل أبنائه! وقد كان من «سوءات» هذا الإعلام أنه صنع نظماً وزعامات ظلت شعوب بعض الجمهوريات دهوراً تحت سطوتها. وبعد ثلاثين عاماً أو أكثر اكتشفت الشعوب أن تلك النظم لم تكن صالحة للزعامة ولا للقيادة ولا لحفظ الأوطان! ومن سوءات هذا الإعلام أنه رُبط -في بعض البلدان- بشخصيات لها مواصفات غير مهنية بل قد لا تؤمن بالمهنية ولا بحقوق الصحفي، من الأساس.
والراهن أن العالم العربي يعيش مرحلة جديدة من الإعلام «المؤدلج»، وهذه ظاهرة جديدة تُضاف إلى ظاهرة الإعلام الرسمي المتردد والحَذر والمُتوجس! وهي مرحلة اقتربت -في تقديرنا- من دائرة الفوضى في نشر الأفكار والمعلومات، خصوصاً بعد تداعيات ما سُميَّ «الربيع العربي»، حيث انفلت زمام الأمور السياسية والضوابط المهنية، وأصبح كل إعلامي رئيساً في محطته، يتكلم باسم الرئيس، ويصرخ باسم الرئيس، بل ويوجه الرئيس لما يجب أن يقوم به! كما ظهرت في هذه المرحلة ألفاظ وعبارات وصور ليست جديرة بهذا الإعلام أو بالنشر عموماً، وهي لا تليق بكرامة المشاهدين، إثر حالة التشنج والانفلات ورفض الآخر.
وأيضاً في ظل عدم الثقة والفوضى ظهر جيل من الإعلاميين «الجُدد» -في بعض مناطق العالم العربي- من الذين تسرَّعوا الشهرة ولم يتم تأهليهم أو تدريبهم لمهنة الإعلام، وتم الزجُّ بهم نحو «مغامرات إعلامية» راهنوا على نجاحها، ولكنها سقطت من أول اختبار، لأن القائمين على «الروليت الإعلامي» لم يكونوا من الإعلاميين، وصار هؤلاء الإعلاميون مثل «الغراب» الذي حاول تقليد مشية الحمامة، فنسيَّ مشيته! وما زلنا نشاهد «التخبط» والتراجع والتسطيح والافتقار للإبداع والإثراء الثقافي في العديد من المحطات التي تملأ السماء العربية، وهذا ما سبب أزمة ثقة بين الإعلام الرسمي والجمهور، لأن الجمهور لم يقتنع بحامل الرسائل غير المؤهل.
إذن، فإن تأصيل المهنية من أولى الخطوات نحو بناء الثقة مع الجمهور، وتأسيس الإعلام على المبادئ الرئيسية التي تؤهله لأن يحفظ مبادئ حرية التعبير، وحق الإعلامي في الوصول إلى المعلومات بالطرق الملائمة من الناحية الموضوعية. والمهنية أيضاً هي التي تحفظ حقوق الآخرين، وتجعل من الإعلام مدافعاً عنهم لا منتهكاً لكرامتهم أو مُهيناً لعقولهم.
المصدر: الاتحاد