كاتبة في صحيفة البيان
للجامعات فضاءٌ آخر، مكتنزة رفوفها بالمصادر العلمية والبحثية والنقدية، تتسع أركانها بالأطروحات الداعمة والموثقة، تجوب سماء آدابها طيور الخيال والأدب واللغة، يتناقل دارسوها مواد ثقافية مختلفة، مزدانة بعناوين ذات خصوصية، ينقبون ويبحثون ويتأملون برحابة وسعة، ليتخرجوا بملامح أكثر نضجاً، بعد أن توغلوا في ميدان «تخصص التخصص»، هنا يشرق العنوان، وتتطور حقائق بعد أوهام، تنهض النظرية الجديدة، ندرك حينها أن رؤية المراقَبَة والمُشَاهَدَة الحذقة هي ما تؤدي إلى عطاء بعد كفاف، تحت مسمى «أكاديمي».
بعد تقديم د. مريم خلفان السويدي لمنتدى للغة العربية الذي انعقد يوم الأحد الفائت، وقفتُ – ولأول مرة – أمام محكمة أكاديمية في جامعة الإمارات العربية المتحدة، وأمام الأستاذين: الناقد الدكتور الرشيد بوشعير، من قسم اللغة العربية وآدابها، والدكتور حمد بن صراي من قسم التاريخ والآثار، وبحضور العميد والأساتذة والطالبات، لتتحول المحاكمة إلى متعة باعثة ورغبة تستجيب للاستجواب في مُنتدى اللغة العربية الأول بقسم اللغة العربية بجامعة الإمارات، تحت عنوان «الرواية والتاريخ»، ورواية سلطنة هرمز نموذجاً للنقاش.
تناول د. حمد بن صراي كاشفاً عن وجه الصحة والخطأ التاريخي في الكتاب، حاصر ما تضمنته الرواية في سياج الأحداث التي بانت فيها كموضوع بملامح تاريخية، وليس التاريخ بحد ذاته.
بدا لي ذلك الماضي بتفاصيله وأسمائه وحكاياته كيف يشغلنا الآن؟ وكيف نكتبه؟ والأهم، كيف نقرأه؟ وهكذا حتى دشن الأدب الإنساني السرد الفاتن في الرواية، لتلوح «الرواية التاريخية»، وتخرج الأحداث القديمة أخاذة وفاتنة، بل وكاشفة وصريحة، تفشي الأسرار، وتصحح المسارات في زمن ماض قد انتهى بعد أن بقيت جافة في بطون الكتب.
تلاه د. الرشيد بوشعير حين قرأ أطروحته في أن الرواية التاريخية مادة سياسية اجتماعية ثقافية فلكلورية حضارية.. والسرد مُتخيل ومخلص للتاريخ بجزالته، وفضح المجد الزائف، وتأكيد إنسانية الإنسان.. كما أن الراوي ليس مضطراً لتقديم مصادره أو تبيان الواقع من الخيال.
تفاصيل شتى شهدها المنتدى توجب علينا أن نشكر كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة الإمارات عليها.. لم يخل الأمر من مفاجآت سعيدة، منها ما تلمسناه في طالبات اللغة العربية فيما يملكن من مواهب لغوية ونقدية، ولعل من الطالبات المائزات في هذا الجانب الطالبتين: سندس حسين وفاطمة عبدالسلام في قراءتهما النقدية التي وجدت إحداهن عدم نضوج الرواية كما يجب، أو أن المستعمر قد وضح معناه فيما حدث.
وهنا يحضرنا ما قاله الشاعر الفرنسي بول فاليري، إذ جاء في حديث له: «التاريخ أخطر محصول أنتجته كيمياء الفكر».
كتابة التاريخ مهنة أخلاقية وأمانة كبرى، لذلك يختبئ الرواة خلفها عبر كتابة جديدة مراوغة تتجنب الوقوع في فخ المحاكمة، لكنها ليست إشكالية بقدر ما هي إضاءة متجلية تنتهي للوصول إلى حقائق أخرى نريدها، ونصلح بها الحدث.. لكن هيهات، فمن كتب التاريخ آنذاك أصبحنا نشك فيه وفي انحيازه الفكري أو الديني أو المذهبي أو العرقي، رغم أن المعلومة التاريخية وبكل بساطة مجرد معلومة تُكتب بدقة حتى تمضي.
ينساب في التاريخ بجمال نثره المُتخيل قاصداً إصلاح ما مضى، من أجل القادم، فهو في معناه الأدبي انفعال وجداني، وفي معناه الجمالي إمتاع وحب، وفي معناه الإنساني إعلان وإبلاغ، وأن تتدخل في النبأ. الرواية إرواءٌ للظمأ، وإظهار لما خفي، خيال يبدو كواقع شبحي، وكمثال ضل طريقه، وحقيقة مشكوك فيها.
المصدر: الإمارات اليوم