د. عبد الحميد الأنصاري
د. عبد الحميد الأنصاري
كاتب قطري متخصص في حقوق الإنسان والحوار الحضاري والفكر السياسي

من حقي أن أختلف

آراء

امتاز الإسلام بإعلاء عمل العقل وتشجيع البحث وحرية الفكر، وحرص على النهي عن التقليد والاتباع والانسياق وراء عقلية القطيع، وعرف المسلمون في أزمان المد الحضاري الإسلامي بسعة الصدر والسماحة وإعذار بعضهم بعضا إذا اختلفوا في الرأي، وحينما خاطب الله تعالى رسوله الكريم محمداً عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى: “أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ” كان ذلك إيذاناً بإقرار الإسلام حق الاختلاف، وتعزيزاً للتعددية الدينية، وضماناً قوياً أمام البشر في خياراتهم الاعتقادية والعبادية.

فإذا كان الرسول الكريم مأموراً بالامتناع عن إكراه الآخرين على الدين، إذ لا طريق أمامه إلا للدعوة بالحسنى “ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ” فمن باب أولى ألا يملك أحد حق فرض رأيه على الآخرين، ومن ناحية أخرى إذا كان الإكراه ممنوعا فيما يتعلق بالأمور الدينية فمن باب أولى أن يمنع في الأمور الفكرية والسياسية والاجتماعية.

هناك العديد من الآيات المحكمات التي تشرع لحق الاختلاف، باعتباره مشيئة إلهية سابقة ومرتبطة بعلية خلق الجنس البشري، وأنه هو الغاية من وجودهم، ولذلك علينا إدراك أن اختلافات البشر الدينية والسياسية والفكرية، ستبقى بقاء البشر إلى يوم الفصل “ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ”.

إن أقوى مبرر يؤسس لشرعية الاختلاف هو القرآن الكريم في الآية السابقة، وفي العديد من نصوصه المحكمة، منها قوله تعالى: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ”، أي خلقهم ليختلفوا ويتنافسوا من أجل إعمار الأرض وإثراء الحياة والتطور والتقدم، بل إن القرآن الكريم يجعل هذه الاختلافات مزية ونعمة، ولذلك نجد القرآن الكريم يذكرها في سياق الامتنان والنعم “وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ”.

إذاً كان القرآن مؤكداً حق الاختلاف، والمسلمون فيما مضى اتسعت صدورهم له، إلا أن هذا الأمر لم يستمر طويلاً، فقد جاء حين من الدهر ساد فيه التضييق على الفكر، والحجر على الرأي، والتعصب للشيخ والمذهب والقبيلة والطائفة، والمسارعة إلى اتهام المخالف وتجريحه، وإساءة الظن به، بل اضطهاده والتنكيل به، وانتقل هذا الإرث التعصبي إلينا، ومصداق ذلك ما نشاهده ونعانيه عبر وسائل التواصل الاجتماعي من خروج على قواعد اللياقة، وخرق لآداب الحوار ونشر للإشاعات بهدف بث الكراهية والتحريض، وإثارة الناس وشحنهم ضد كاتب أو باحث أو متحدث لم يعجب داعية الكراهية أو اختلف معه في رأي سياسي أو فقهي.

الويل لمثقف إذا خالف الرأي السائد في المجتمع، يتكالب عليه الجميع شتماً وتجريحاً، دون إفساح المجال لحوار عقلاني يثري النقاش ويوصل إلى جلاء حقيقة القضية محل الخلاف، ومعنى ذلك استمرار تزييف وعي الناس، وسيادة الجهل والأوهام، وهذا هو الخطر الحقيقي على مستقبل شبابنا ومجتمعاتنا، لتظل تدور في دائرة الأوهام والزيف، بدلاً من الارتقاء الفكري وتجاوز المواريث التعصبية.

والمدهش في ساحتنا الإعلامية وبخاصة الإعلام الجديد، أن الواقع المجتمعي، في الوقت الذي نكثر فيه من ترداد المقولة الذهبية “الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية”، يؤكد أن الخلاف في دنيا العرب يفسد الأمور ويحولها إلى كراهية وبغضاء! دعونا نتساءل: لماذا لا تفسد الخلافات عند الشعوب الأخرى علاقات المودة والاحترام بينهم، وتفسدها عندنا؟! لأن أساليب التربية والتنشئة، ونظم التعليم، ومنابر التوجيه، والممارسة المجتمعية عندنا، فشلت في تعويد الناشئة على تقبل الرأي الآخر واحترامه.

فمن يدخل إلى عالم “تويتر” يفزع من حجم التردي في الحوارات، ويتحسر على المستوى الهابط للمناقشات، يا حسرة على تعليم وتثقيف وتوجيه استنزفت موارد وطاقات ذهبت هدراً، ولم تفلح في تعليم أولادنا احترام الرأي الآخر، وحق الاختلاف، وأنه لا أحد من البشر يملك الحقيقة المطلقة.

ختاماً: ما زال خطابنا التعليمي والديني والثقافي تحكمه آفتان: الأولى، الرأي الأحادي الذي ينتقص من الرأي الآخر ويشوهه، والأخرى، التلقين والحفظ لا التفكير والتحليل، وهما لا يساعدان على إيجاد عقلية منفتحة متقبلة حق الاختلاف.

المصدر: الجريدة