مؤسسة ومدير ة دار ورق للنشر في دبي وكاتبة عمود صحفي يومي بجريدة البيان
ستبقى مجتمعاتنا ممتدة ونابضة بالحياة طالما بقيت تحتفظ بذاكرتها طازجة وبعيدة عن العطب، ذاكرة المجتمع هي الذاكرة الجمعية لكل الأفراد، لعاداتهم المتقاطعة، لسلوكياتهم العامة لموسيقاهم وأغنياتهم العلنية، لألعابهم وطقوس أفراحهم وأحزانهم وأشكال ثيابهم ولهجتهم وكل ما يشكل الذاكرة الجماعية التي تحرص الأمم على التقاطها وحفظها حيثما وجدت.
الذاكرة المعطوبة بداية الطريق نحو التلاشي، فعندما تظهر علامات الخرف على الإنسان ويبدأ في فقدان بعض الخيوط تبدأ مروياته ولائحة الأحداث والأسماء لديه بالتفكك والضعف، عندها يضع جميع من حوله أيديهم على قلوبهم انتظاراً لرحيله، ففقدان الذاكرة واحدة من علامات النهاية المؤكدة، وحتى لو لم يمت، فإن إصابته ببياض الذاكرة، أو بالذهن الخالي من أي تدوين وكأن صاحبه لم يرتكب فعل الحياة معناه أن هذا الشخص أو المجتمع لم يعد موجوداً بالفعل!
الأفراد كالمجتمعات تماماً فطالما بقينا متنبهين لتسجيل ذاكرتنا الخاصة، ذاكرة آبائنا وأمهاتنا، ذاكرة أحيائنا وعلاقاتنا في تلك الأحياء، أشكال بيوتنا، أسماء العائلات والأسر التي سكنَّا بجوارهم أو جاورونا لبعض الوقت، الحرف التي وجدنا أهلنا يمارسونها، الرجال الذين لعبوا أدواراً مميزة في حياة تلك الأحياء، المسجد الأول والمدرسة الأولى والمشفى الأول، أول من اشترى سيارة وبنى مسجداً وو.. هذه ذاكرتنا الخاصة، ولكل منا ذاكرته الثرية الغنية التي لا تشبه غيرها لكنها يمكن أن تتقاطع مع غيرها، لأننا جميعاً ننتمي للجذر نفسه!
لقد أصرت أمي على أن تطلق اسم «خليفة» على ابن أخي «ناصر» ما جعل ذاكرتنا تستنير فجأة مستدعية الاسم في معناه الكبير الذي استقر في داخلنا، فـ(خليفة بن ناصر) رحمة الله عليه واحد من ثلاثة أخوة رجال، حمل حي بأكمله اسم والدهم «ناصر»، إنهم عيال ناصر «خليفة وسلطان وعبد الله» والحي هو «حي أو فريج عيال بن ناصر»، كان خليفة رجل «بر» يذهب إلى البر باستمرار للقنص ربما، وكان الرجل الوحيد الذي يمتلك سيارة جيب لاند كروزر، يشغلها في صباحات الشتاء الباردة في وقت مبكر لتسخين محركاتها فتصدر صوتاً يسمعه أهالي الحي، وكان كل رجال الحي طيلة أيام رمضان يجتمعون للإفطار في مجلسه، كان الوحيد الذي يمتلك مجلساً كبيراً، وكنا كأطفال نخرج من كل البيوت حاملين الأطباق إلى ذلك المجلس قبيل الأذان بقليل.
خليفة بن ناصر رجل من زمن الطيبة والنخوة، من ذاكرة فريج «عيال بن ناصر»، لم ينجب أبناء وظل مكتفياً بزوجته إلى أن توفيت منذ سنوات قليلة فتزوج فتاة صغيرة كما سمعت، بعدها لحق بزوجته، رحمه الله!
المصدر: البيان