كاتب وأستاذ جامعي موريتاني، له كتب ودراسات عديدة منشورة في ميادين الفلسفة المعاصرة وإشكالات التحول الديمقراطي.
حذر العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز في خطاب له قبل ثلاثة أشهر الدول الغربية بأنها مُعرضة للإرهاب في الفترة القريبة القادمة، إذا لم تأخذ الخطر بجد وتقف مع جهود البلدان العربية التي تواجه اليوم أعتى وأخطر تحديات الإرهاب بعد بروز الدولة «الداعشية» وتمددها على مناطق واسعة من العراق وسوريا. ها هي موجة الإرهاب العنيفة التي ضربت فرنسا، تؤكد صدق هذا التوقع، وتنقل الخطر إلى قلب أوروبا، في الوقت الذي ترتفع في الإعلام الغربي الأصوات الإسلاموفوبية المعروفة (من أمثال الفرنسيين إريك زمور وميشيل هولبك) مطالبة بشن الحرب «الحضارية» ضد «البربرية الإسلامية». الخطاب السائد في الإعلام الغربي هو أن الإرهاب «الإسلامي» صدرته البلدان العربية الإسلامية فكرياً ومولته ونشرته، ولا سبيل لمحاربته جوهرياً دون مراجعات جذرية في البنيات العقدية والتشريعية للدين الإسلامي نفسه.
هذا الرأي السائد لا يصمد أمام التمحيص والتحقيق، فالواقع أن الدول الغربية هي التي صدرت الإرهاب للبلدان العربية الإسلامية، وهو التي وطدت منابعه وحمته في المهد، ووقفت ضد إجراءات مواجهته التي اتخذتها دول المنطقة.
ليس من المصادفة أن الشابين الفرنسيين اللذين هاجما مجلة «شارلي إبدو» ولدا في فرنسا وتربيا فيها، ولا يختلف مسارهما عن تجربة شباب الأحياء الهامشية الفقيرة التي يعيش فيها أغلب أبناء المهاجرين ممن تتلقفهم شبكات الجريمة قبل أن ينساق بعضهم لشبكات الإرهاب والتطرف الديني. ولم يكن الانتحاريون الذين فجّروا أبراج نيويورك سوى نماذج من الشباب، الذين عاشوا في الغرب وتشبعوا بثقافته ولو بطريقة مرَضية.
ما أثبتته الدراسات الاجتماعية التي تناولت ظواهر الإرهاب والعمليات الانتحارية، من أهمها أعمال «فرهاد خرسوخوفار» و«طلال أسد»، هو أن الإرهابي المتشدد ليست له في الغالب خلفية دينية تقليدية، بل هو مندمج في العولمة، يعيش نمط «تدينه» العدواني حسب مقاييس حداثية من وعي فردي وتجربة ذاتية وتجييش أيديولوجي، ولذا يظهر رفضه الكلي لأشكال التدين المقننة جماعياً وللمؤسسة الدينية التقليدية. ومن هنا ندرك أن العدو الأول للإسلام الراديكالي العنيف هو المجتمعات والدول الاسلامية نفسها، التي ركز عليها طيلة عقود طويلة، ولم يتجه لاستهداف البلدان الغربية إلا بعد حملاتها العسكرية في المنطقة التي بدأت من التدخل في الصومال، قبل الحروب الأميركية في أفغانستان والعراق.
في كتابه «الموت من أجل الانتصار»، يخلص «روبرت باب» الاستاذ في جامعة شيكاغو من خلال دراسة تحليلية مفصلة لـ315 عملية إرهابية عرفها العالم من سنة 1980 إلى سنة 2003 أن خلفيات جل هذه العمليات كانت سياسية أو قومية، ولم يكن العامل الديني حاسماً فيها. وقد اعتبر «باب» أن التفجيرات الانتحارية تحدث عادة عندما تتوفر شروط ثلاثة هي: الاحتلال الأجنبي الذي تتولد عنه نزعات وطنية قوية، الطابع الديمقراطي للدولة التي تحتل الأرض، اختلاف الديانة بين الدولة المحتلة والدولة التي تحتلها. ولذا فإن النماذج الأولى للإرهاب ارتبطت بالحركات الوطنية في سريلانكا (التاميل) وإيرلندا والهند (السيخ)، فهي التي طورت آليات العنف الراديكالي التي استنسخها المتطرفون الإسلاميون.
لا مكان في الإسلام لفكرة «الإبادة المقدسة» التي هي مفهوم توراتي، والشهادة في مفهومها الإسلامي التقليدي هي الاستماتة لإنقاذ الحياة لا اتخاذ الجسد سلاحاً للتدمير التي هي فكرة نفذت للجماعات المتطرفة من أدبيات “اليسار” الراديكالي. الإرهاب الثوري كما هو معروف من صناعة الثورة الفرنسية في مراحلها القمعية، ومن آثار الأيديولوجيات التوتاليتارية التي أثرت بقوة في خطاب جماعات الإسلام السياسي التي تبنت منذ الستينيات مقولات الحتمية الماركسية وأفكار الطليعة الانقلابية والثورة المستمرة. لم تصدر الدول العربية الإسلامية الإرهاب إلى أوروبا، فجل المتطرفين والانتحاريين من نتاج المجتمعات الأوروبية، والكثير منهم كانوا متابعين من أجهزتها الأمنية، والبلدان الغربية هي التي احتضنت المجموعات الراديكالية المتورطة في الإرهاب والمطلوبة من الحكومات العربية. في صحيفة “لوموند”، كتب رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق «دومنيك دو فلبان» مطالباً بوقف «روح الحرب»، معتبراً أن أكبر انتصار للإرهاب هو نقل الخوف والكراهية والتعصب إلى قلب المجتمع الديمقراطي، وهو الخطر الذي يتهدد فعلاً المجتمع الفرنسي بعد العمليات الإرهابية الأخيرة.
المصدر: الاتحاد
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=83007