كاتب إماراتي
عندما التقيتُ لأول مرة بفضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف أحمد الطيّب – طيّبَ الله طريقه – في مكتبه قبل سنوات، جلستُ صامتاً كوني أصغر الحاضرين سنّاً. وعندما حان وقتي للحديث، قلتُ له: «يجمعنا موتٌ صغير يا مولانا». فضحك لكلامي، وقال: «رحم الله الشيخ الأكبر». فشيخ الأزهر متخصصٌ في فكر مُحيي الدين بن عربي، الذي قال: «الحُبّ موتٌ صغير»، ففهم الإمام من كلامي أنني أقول له، بلغة ابن عربي، إنني أحبه.
وقبل سنوات كنتُ في الحج، وبينما كان أعضاء حملتنا جالسين في مِنى بانتظار الخروج لرمي الجمرات، انزويتُ عنهم في طرف المكان أقرأُ في كتاب. فجاءني شيخ الحملة يسألني عما أقرأ، فابتسمتُ في وجهه وقلتُ له إنه لن يُحب ما سيرى، وطلبتُ منه وأنا أمازحه أن يتركني لوحدي؛ فأصرّ على معرفة عنوان الكتاب، الذي كنتُ قد قلبْتُه على وجهه، عندما اقترب مني. وبعد إلحاح أريتُه العنوان، فشهق عندما قرأ «رسائل ابن عربي» وتعوذ من الشيطان ومن ابن عربي، وأنكر عليّ قراءة «هذه الكتب» في الحج، بدعوى أن ابن عربي قد قال بالحلول – أي أن الله يحل في المخلوقات – فابتسمتُ له، وفتحتُ مقدمة الكتاب وقلتُ له اقرأ كلام ابن عربي، فقرأ: «مَن قال بالحلول فهو مَعْلول». أطْرَقَ صامتاً حين أدرك أن ما يعرفه عن ابن عربي ليس صحيحاً.. ثم جلس وبدأنا حواراً طويلاً حول الشيخ الأكبر وفكره، انتهى بانصرافه للتفكير.
وقبل أيام انتهيتُ من قراءة رواية «موتٌ صغير»، للروائي السعودي محمد حسن علوان، التي يحكي فيها سيرة ابن عربي مذ كان طفلاً. ورغم أني لستُ غريباً عن ابن عربي وفلسفته وأدبه، إلا أنني وجدتُني أغرقُ في أحداث الرواية وتفاصيلها، وكأنني أتعرف إليه لأول مرة! الرواية لا تتحدث عن فكر ابن عربي، أو فلسفته وتصوفه، بل عن الجانب الآخر منه.. فهي تحكي عن ضعفه، وتردده، وانكساره، وشكوكه وقلقه. فمن يقرأ ابن عربي يعتقد بأنه قويٌّ واثق بنفسه، إلا أن من يقرأ الرواية يدرك كم كان ذلك الإمام العظيمُ إنساناً مثلي ومثلك، يعشق، ويذنب، ويخاف، ويشكّ ويعتب، ويبحث عن الحياة والجمال، فتغلبه نفسه أحياناً ثم يغلبها.
لقد تحدثتُ عن ابن عربي باستفاضة مرتين في «سناب شاب»، وفي كل مرة أقول في نفسي إنني لم أقل شيئاً بعد عن ذلك البحر المليء بالحكمة والعرفان والذوق الوجداني، الذي لاشك في أنه هبط عليه من فتوحات رب السماوات. إلا أن رواية محمد علوان جعلتني أتعلق به أكثر، لأنها بيّنت لي أن من الطبيعي أن أكون ضعيفاً، أن أحتار وأتردد، أن أفقد ثقتي بنفسي وبمن حولي وأصير هشاً كقارب ورقي في نهر جارف.. كل ذلك طبيعي، بل ضروري حتى أستمر في السفر والرحيل، كما قال محمد على لسان ابن عربي في الرواية: «لابد من السفر كي نستجلب العِبَر، والمؤمن في سفر دائم. والوجود كله سفرٌ في سفر… ألا يعلم أن من ترك السفر سكن، ومن سكن عاد إلى العَدَم!».
في هذا الرواية لن تجد فصوص الحكم، ولا الفتوحات المكية، ولا تُرجمان الأشواق، ولا غيرها من كتب ابن عربي ودُرره النفيسة. لن تجد سوى راحل لسان حاله يقول: «كلُّ سفينةٍ لا تجيئُها ريحُها منها فهي فقيرة». أتمنى أن تفوزَ بـ«البوكر».
المصدر: الإمارات اليوم