شاعر، ناقد، وأكاديمي مدرس مشارك ومرشّح لنيل درجة الدكتوراة في الأدب العربي جامعة جورجتاون / واشنطن دي سي
يمكن مقاربة المشروع الجمالي للشاعر السعودي محمد الثبيتي (1952-2011) بتحليل «نصوص الذروة الشعرية» في ديوانه، وهي النصوص التي أحدثت اختراقات فنية ألهمت تجربة الطليعة الشعرية، وشغلت اهتمام الخطاب النقدي وجمهور الشعر على حد سواء، إلى أن أصبحت علامة على التجربة الثبيتية وشعر الحداثة في الجزيرة العربية، ومن المعالم الرئيسة للحركة الشعرية الحداثية في العالم العربي، حين يُكتب لها تاريخ منزوع العقد والأساطير يقيها من تجمدها في لحظات تفوق فوق تاريخية من شأنها أن تعزز خطاب مركزيات موهوماً. إن إيجاد موقع مستحق للذات في سردية قاهرة، تعميمية، وتنميطية هو بالضبط (الحدث الشعري)، بتعبير جوديث بالسو، الذي يؤسسه مشروع الثبيتي، الذي تم تكثيفه في آخر الثبيتيات الكبرى: (موقف الرمال موقف الجناس).
في كتابها Affirmation of Poetry الصادر بالفرنسية في 2011، والمترجم إلى الإنكليزية في 2014، تجادلبالسو، الفيلسوفة، الكاتبة الفرنسية، وأستاذة الشعر في الكلية الأوروبية للدراسات العليا EGS، حول الأهمية القصوى للشعر بوصفه «حدثاً فكرياً»، وبالتالي فهو يقدم لنا «فلسفة» من نوع خاص. إن «فلسفة» الشعر ليست في «التعبير عن فكرة ما»، بل في «التفكير بشكل شعري». إن قدرة عملٍ ما على إنتاج حقيقة من داخل الحدود والقيود، التي هي دائماً لغوية، يحوله إلى ما تسميه الكاتبة بـ«الحدث الشعري». إن الحدث الشعري هو نص، أو تكوين شعري يتكون من مجموعة أعمال شعرية، ويدل على عملية تفكير في العالم ومحاولة لفهمه. إنه، مرة أخرى، ليس مجرد «تعبير» عن فكرة، بل عملية إدماجية في التفكير بشأن شيء ما، وبالتالي فهو صناعة لوجود ولحدث ذي سمة شعرية ليس له تحقق خارج النص.
إن هدف بالسو الرئيس هو استخدام مفهوم «الحدث الشعري» منفذاً للدخول إلى العمل الشعري عوضاً عن المنافذ المعروفة في دراسة الشعر (المراحل التاريخية، المدارس الفنية المواضيع، إلخ). من المهم الإشارة هنا إلى العلاقة الحميمة التي تربط بين بالسو والفيلسوف الفرنسي آلان باديو الذي يعد (الحدث) من أبرز مفاهيمه التي يقارب من خلالها فكرة الثورة، بوصفها اختراقاً مفاجئاً للنسيج العام من أجل اقتراح واقع جديد.
«أقرأ الشعراء. أتعلم من الشعراء». جملتان تفتتح بهما بالسو كتابها لتفصح عن رؤية للشعر بوصفه معرفة وكشفاً عن حقيقة. إن الحقيقة التي ينتجها الشعر، كما تروي بالسو عن أحد شعراء كتابها المفضلين، والاس ستيفنز، تختلف عن «حقيقة» الفلسفة في كونها «حقيقة» قائمة على المجاز. إن الشعر، يقول ستيفينز، هو أحد آثار التشبيه وعقد التماثلات والمقارنات بين الأشياء. عن طريق هذه التماثلات، تصل القصيدة إلى حال تمتلك فيها منطقها الخاص ويصبح حدث التفكير هو حدث الشعر، وهنا نحصل على ما تسميه الكاتبة «قصيدة عمل العقل». إن تشكيل القصيدة بالكلمات ليس تعبيراً عن أشياء موجودة، إنه عملية خلق لأشياء غير موجودة خارج القصيدة. عن طريق المجاز والتماثلات، تخلق القصيدة عالماً يتبدَّى في الكلمات، وهذا التبدِّي هو وجوده الكامل، إذ لا وجود له خارج الكلمات. القصيدة ليست فقط «تبدو كذلك»، كشيءٍ آخر تُشبَّه به، بل إن فعل التبدِّي هذا هو وجودها ذاته.
في «مواقف» الثبيتي، يتأسس «الحدث الشعري» على ميتاشعرية تقترح موقعاً للشاعر في العالم يتماهى فيه مع النخلة، ومن هنا تشكِّل النخلة محوراً لهذا الحدث وتظهر بوصفها مركز جاذبية نوستالجية يدور حوله عالم ثقافي يعيد تعريف الذات بمفردات فنية ما قبل نفطية. توفر هذه المفردات (للجماعة المتخيلة)، كما يصفها بينيديكت أندرسون، هوية بديلة تتأسس على عناصر إنسانية ولكن محلية وغير مصطنعة. إن تبدِّي هوية ما يمكن أن يطلق عليه «ما قبل النفطية» في قصيدة الثبيتي هو الحدث الشعري الذي تسعى هذه المقالة إلى الإشارة إليه.
لقد كان العالم الطبيعي، في مناسبات متعددة، يشكل للثبيتي ملجأً ثقافياً من إكراهات المدينة النفطية. في نص «البشير» من ديوان (التضاريس – 1986)، تتبدى أمام العين الفيلولوجية، المدربة على تقدير السياق، ملامح أولية لخطاب نقد للحالة النفطية نتيجةً لتضحيتها ببعض أهمِّ أسس ثقافة المكان: النخلة والرمال. هنا يتحول اكتشاف النفط إلى «تمزيق للأحشاء»، ويصبح «قيحاً» يحني النخلة على رمالٍ من الصديد في أفقٍ أحمر يغطيه الضباب: «ورأى مدناً مزَّقَ الطلقُ أحشاءها/ وتقيَّحَ تحت أظافرها الماءُ/ حتى أناخ لها النخل أعناقـَهُ/ فأطالَ بها… واستطالْ/ وأفرغَ منها صديد الرمالْ». وفي مقطع من أحد أشهر نصوصه «تغريبة القوافل والمطر»، من ديوان «التضاريس» ذاته، يعارض الثبيتي مرة أخرى بين النفط والنخلة، ففي حين يتحول النفط، كما تقترح هذه القراءة، إلى «دم مشربٍ بالثآليل»، تظهر النخلة في صورة المنقذ والقائد الذي يلجأ الصوت الشعري إلى مناداته والاستنجاد به: «وسكرنا برائحة الأرض وهي تفورُ بزيتِ القناديلِ/ يا أرضُ كفِّي دماً مشرباً بالثآليل/ يانخلُ أدرك بنا أول الليل». إن لنصوص الثبيتي المبكرة، هذه وغيرِها، لدلالةً على محورية النخلة في تشكيل الهوية الثقافية البديلة للهوية النفطية، كما أنهما توفران شفرة فنية يمكن في ضوئها اكتشاف هذه الهوية في «مواقف» الثبيتي.
في «موقف الرمال» تتبدى القصيدة ناظرةً إلى نفسها في المرآة. بعبارة أوضح، يوظف الثبيتي الميتاشعرية، أي الشعر متحدثاً عن الشعر، ليصمم حدثاً شعرياً يُظهر الشاعر في صورة (نبي زمني)، يتلقى وحيه الشعري من مصدر أرضي/طبيعي، ويتماهى مع النخلة بوصفها المرادف الجمالي للحالة ما قبل النفطية. تتمثل ميتا شعرية القصيدة في بعدين: أحدهما موضوعي، إذ يتحول الشاعر/الشعر إلى موضوع للقصيدة، أما الآخر فهو بعدٌ إحالي، إذ تحيل القصيدة إلى نصوص فنية (دينية وصوفية وشعرية)، إضافة إلى إحالتها إلى سمات إيقاعية وأسلوبية متصلة بالتراث الشعري بالدرجة الأولى. وعبر تماهي الشاعر مع النخلة، يسعى النص إلى اقتراح هوية مغايرة تتأسس على عناصر محلية ما قبل نفطية من أجل تذكير «الجماعة المتخيلة» بها وبدورها في كتابةِ سرديةٍ بديلة.
تستعير المقالة مصطلح «الجماعة المتخيلة» من تعريف بينيديكت أندرسونللقومية الحديثة، الذي يقرر فيه أن القومية وحدة بشرية تربطها روابط متصورة تتعزز عبر عوامل متعددة من أهمها اللغة. تؤدي اللغة، خصوصاً بعد مرحلة «رأسمالية الطباعة»، وظيفة نشر وتعميم تصورٍ قوميٍّ لجماعةٍ ما يقوم على انتقاء سردية معينة للتاريخ. لقد مثل الأدب واحداً من أهم عوامل تثبيت تصورات الجماعات المتخيلة، وبالمثل يمكن أن يقوم بدور تغيير هذه التصورات وإبدال أخرى جديدةٍ بها.
في ما يتعلق بسردية التاريخ المبكر للهوية السعودية الحديثة، أشار روبرت ڤيتاليس في كتابهAmerica’s Kingdom، على سبيل التمثيل، إلى الدور الحاسم الذي لعبته صناعة النفط والمؤسسات الثقافية المنبثقة عنها في التأسيس والترويج لهوية سعودية استثنائية متأسسة على لحظة اكتشاف النفط. ما يهم في هذه اللحظة النفطية، التي ربما لا يستقيم منطقياً أن تكون محل ثناء أو مثار هجاء بحد ذاتها، أنها استخدمت لإنتاج خطاب تنمية مادي بحت أدى، فيما أدى إليه، إلى تشكيل هوية سعودية تضحي بالعناصر الثقافية المحلية ما قبل النفطية في سبيل ابتكار حال توحيد ثقافي توفر للجماعات الفرعية نقاط التقاء مادية تسمح بتفاعل بينيٍّ أقل ضجيجاً. تأدلجت التنمية، إذاً وأصبحت جزءاً من معنى أن يكون المرء سعودياً، كما يؤكد توبي جونز في بحثه عن دوغما التنمية في السعودية. لقد أسهم ذلك في تأكيد الآخر، الغربي والعربي على حد سواء، على «النفط» بوصفه المرادف الثقافيَّ للبلاد إلى درجة أنتجت حالاً من التبرم لدى الرموز الثقافية السعودية، مثل غازي القصيبي، الذي قال في قصيدة أوبريت الجنادرية 1993: «نفطٌ يقول الناس عن وطني». هذه الصورة الاختزالية واحدية البعد، التي تعززت في ما بعد عبر خطابات أخرى لا تدخل في صميم اهتمام هذه المقالة، يبدو لي أن أخذها في الحسبان يوفر لقصيدة الثبيتي فرصة أفضل للإفصاح عن مكنوناتها.
وبتوظيف مفهوم «الحدث الشعري» يمكن أن نتفهم كيف يمكن للقصيدة أن تأخذ موادها الأولية من الواقع ولكن لأجل أن تبدع حقيقتها الخاصة التي لا تخضع لشروطه. إن إهمال سياقات النص الأدبي السعودي الحديث، أو على الجانب الآخر، استخدامها بصورة اختزالية على شكل مقدمات لا بد منها في كتب تاريخ الأدب المحلي، يقود إلى ما يمكن تسميته بالحبسة التأويلية التي تحرم النص من التعبير عن خصوصيته الثقافية بكفاءة. لقد برز صوت الثبيتي في مرحلة نقدية غلبت عليها أدوات قراءة يتلقى بعضها، فيما يشبه احتفالية المتعبد، مفاهيم «تميت المؤلف» حرفياً، فتعزل النص تماماً عن «مثيراته» التي سميت «خارجية» لتوفير شكلٍ سطحيٍّ من الانضباط المنهجي للممارسة النقدية.
مثل هذه المغالاة في استقبال النظرية تؤدي إلى استبعاد الفاعل، فينحبس التحليل الأدبي في شكلانية مصمتة ولا إنسانية تقود إلى إهدار التاريخ وإلغاء أي دور إيجابي له في عملية القراءة. هنا تغيب الممارسة الفيلولوجية بما هي قراءة دقيقة للنصوص مشفوعة بفهم عميق لعوامل إنتاجه ما وراء النصية، في حين يجدر بالقارئ الفاعل الحيّ أن يقرأ الكلمات وارتباطاتها في النص الأدبي بوصفها قرارات واختيارات لكاتبٍ فاعلٍ حيٍّ موجودٍ في التاريخ يتحرر بفضل الجماليات من عادية اللغة اليومية وبفضل الرؤية الشعرية من الهويات المسبقة المفروضة على الذات.
هل علينا لتأكيد ذلك أن نكرر دعوة إدوارد سعيد، قبل وفاته بعام، للعودة إلى الفيلولوجيا؟ ربما. إن اقتراح هوية أوسع وأسبق من النفط في «مواقف» الثبيتي يقوم على فكرة التماهي بين الشاعر والنخلة، ذلك التماهي الذي يجد ذروته الأسلوبية في تقنية الجناس التي تسيطر على النص من عنوانه حتى مقطعه الأخير.
وباستعارة مصطلح (الاستعارة المفهومية) من الشعريات الإدراكية، يمكن القول بأن الجناس في «مواقف» الثبيتي هو (جناس مفهومي) يجسِّد من جهة تشابه الملامح بين الشاعر والنخلة، ويؤدي من جهة أخرى وظيفة الإشارة إلى دور الأشكال اللغوية في خلق ذاكرة مشتركة يلتقي فيها تاريخ الجماعة وطموحاتها. يقوم الجناس بوظيفة أخرى ذات بعد رمزي، إذ يكثف من حال النوستالجيا إلى ما قبل النفطي عن طريق الإحالة إلى عنصر أسلوبي ينتمي أساساً إلى التجربة الشعرية التراثية مؤكداً العمق التاريخي للهوية المحلية.
في «موقفُ الرمال موقفُ الجناس» يُبرز النص (حدثاً شعرياً) له كينونة مستقلة تخفي النفط تماماً من تعريفات الهوية لمصلحة عناصر المكان الطبيعية والتراثية.
تقترح المقالة بأن عودة الأدب إلى هذه العناصر ما قبل النفطية تمثل مقاومةً ناعمةً للسردية (النفطية) السائدة من أجل اقتراح تعريفات إنسانية محلية للهوية عبر صورة الشاعر الذي يمثل تكثيفاً للأنا الجمعية وهي تعيد ابتكار هويتها من جديد. المقالة القادمة ستسعى إلى تحليل دلالة التقسيم الثنائي والتنوع الإيقاعي لـ«موقف الرمال»، كما ستقارب سؤال العلاقة بين مطلق التجربة الصوفية عند النفري وزمني التجربة الشعرية عند الثبيتي
المصدر: صحيفة الحياة