إبراهيم طالع
إبراهيم طالع
كاتب و شاعر سعودي

مَنْ أفْغَنَ الجنوب؟

آراء

قبل أيام حين سمعتُ خبراً طريفاً يقول: (تخريج دفعة جديدة من مستفيدي مركزي محمد بن نايف للمناصحة بالرياض وجدة) جريدة الرياض 14 أغسطس 2012)، ما استنفر عندي حالة خاصة عجيبة من الاستغراب أو الطرافة الحزينة، فهل صارت صفوف المتخرجين من هذا المركز توصف بكلمة (التخرّج)؟ إذ يعني ذلكم أننا نخرّجُ دفعة وستأتي وراءها دفعات على غرار التعليم الجامعي!

وتذكرت ما حولي وسؤالاً احتلَّني منذ سماعي جملةً للأستاذ خالد المطرفي خلال تعليقه في قناة العربية منذ سنوات، ولم أزل أذكره كلما رأيت لدينا بقايا واضحة من الفكر التكفيري، وعندها استحضرت جملة الصديق خالد تعليقاً على حادث المطلوبين الأحمر في نقطة (الحمراء) في محافظة الدرب – منطقة جازان! حيث قال في بداية حديثه: (أفغانستان في جنوب السعودية!).

ومما حاولتُ تفسيره تحت نير احتلال السؤال: أن جملته جاءتْ تعبيراً عفوياً صادقاً عما يدور داخل المجتمع دون أن يكون له صدى إعلامي عدا ما يشاهده قراء المواقع الإلكترونية من ثقافة عامة ترتكز على أساس ديني ذي فكر أحادي من نوع ندركه جميعاً ويبحثُ كلهم في مظاهره وأسبابها بما في ذلكم النخب التي أسهمت في تأسيسه إسهاماً جلياً موثقاً بالأشرطة والمنشورات، فضلاً عن المبدأ الأساس العام الذي ساد فترة من الزمن ولم يزل يدافع عن ذاته.. والعجيب في أمر هذه النخب التي شكلت هذا الفكر الأحادي الذي أنتج مجاهدي أهليهم وقرروا البحث عن الشهادة بقتل رجل أمن يحمي الحرمين وبلادها، العجيب في أمرهم -كمنظرين- أنهم ركبوا الجمل والمصطلحات التي استخدمها خصمهم مثل كلمة (وسطية)، وفصّلوها على فكرهم، وهذا جلي في كل قنوات الإعلام التي يمتطونها، فالفكر هو ذاته، غير أن التعبير عنه متغير المصطلحات بحسب ما تقتضيه عقيدة التّقية المتوارثة لدى بعضهم عبر التاريخ.. هذا أسلوب المنظِّرين كي يجدوا لهم مطايا إعلامية وسياسية تغترّ بالألفاظ كما نغترّ نحن بقول قائل: هذا حكم كتاب الله وسنة رسوله حول تفسيره نصاً له كثير من التفسيرات والدلالات وحوله مذاهب عدة، أو كغرورنا بذواتنا عندما نسمع مصطلح (أهل السنة والجماعة) وكم من التوجّهات تدَّعي هذا المصطلح!

وبالعودة إلى مُستعْمِرَتي جملة أخي خالد، تساءلتُ على فرض أن الجنوب متأفغن، فمن أفغنه؟ ثم تذكرت كثيراً من التحليلات والتعليقات على أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ومنها تعليق ظريف لأحد المحسوبين على البلد مالياً وسياسياً على كون نسبة من المنفذين ينتمون إلى الجنوب، إذ رأى -كما تذكرون- أن فقر المنطقة أحد العوامل التي جعلتْ قيادات الظلام تستطيع الاستحواذ على بعضهم، ولعل تحليله جاء من خلال مجاله كأحد أثرياء العالم، ناسياً أن (ابن لادن) ينتمي أيضاً إلى أسرة ثرية.

ثم عدتُ بذاكرتي بحثاً عن تحرري من استعمار السؤال إلى تاريخنا الحديث متسائلاً بعد علمي أن كل مناطق المملكة أهل ومحبون لوطنهم، وأنهم المصدر الأساس للدين النقي بكل مذاهبه واتساعه الذي لا يدركه الحفظة بل فقهاء قليلون عندنا، متسائلاً عن أسباب التركيز على فكرة المكانية رغم أن الثقافة التي نحمل جميعاً إيجابها ونتحمل سلبها هي ثقافة ذات مصدر واحد، ونعلم أن جهات التخطيط الاستراتيجي تعمل قدر وعيها واستطاعتها على تنقية شوائبه التي يُعتقدُ أنها من الأسباب الرئيسة للانحرافات التدميرية.

أما كون اليمن يحمل ما يؤهله للدخول في مشكلاته الداخلية والتأثير في الجوار فهو أمر مستوعب نظراً إلى النجاح الأمني الداخلي في المملكة، ما جعل بقايا المنتحرين يشتكون من قلة الدعم هناك وييأسون من جدوى أفغنة اليمن، فأجبروا على الدخول الانتحاري بشكل أو بآخر، وكأني بـ(ذَوَيِ العباءتين) قد قررا أن الحياة التي يعانيانها هناك أرخص من التمسك بها، ولذا كان احتمالهما اجتياز أي نقطة هو خمسون من المائة، والخمسون الأخرى هي الحركة الانتحارية، فهما مع الحياة التي يعيشونها موت، غير أن الانتحارية تتميز عندهم بأن هناك من يحتسبهم عند الله شهداء، وهذه هي لبّ المشكلة التي أرجو أن لا تتطور! وقد كان لي تعليق على صورةٍ لطفلتَيْ شهيد الأمن -آنذاك- قلت فيه: تخيلوا أن من يتَّمَ هاتين الطفلتين سيجد من يقول: نحسبه عند الله شهيداً!

إن الأعمال الإرهابية الحقيقية ليست منْ قاوم الاستعمار في العالم فأطلق عليها هذا المصطلح كما كان يطلق على نلسون مانديلا أو ياسر عرفات أو هواري بو مدين.. إلخ، بل هي تنطبق تماماً على من قتل المسلمين من أهله ويتَّم الأطفال مرتكباً بهذا مع جرائم القتل تزويرَ الدين علمَ أم لم يعلمْ، ولو كان هؤلاء المنتحرون ومنظروهم يمارسون جرائمهم بدافع عمل سياسي صريح لكان أهون لهم وعليهم من تزوير الدين لاستباحة الدماء والمقدّرات.

أعودُ أيضاً لأقول: لديَّ -شخصياً- قناعة بأنَّ بعض شباب الجنوب اليومَ أكثر تطرفاً منهم قبل عقود لسبب بسيط هو: أن رسالة هذا الفكر وصلتهمْ متأخرة، وبدأتْ فيما يشبه الرسوخ فيهم متأخرةً أيضاً، في نفس الوقت الذي تعداها مصدِّرُها الأصلي إلى همومه المدنية والحضارية والسياسية والاقتصادية، بينما لم يزلْ بعض من وصلته هذه الرسالة يتلقاها على أنها فتحٌ تعليمي جديد استطاع استيعابه والإيمان به!

نشرت هذه المادة في صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (٣٢٩) صفحة (١٤) بتاريخ (٢٨-١٠-٢٠١٢)