كاتبة في صحيفة البيان
في العالم المتقدم الواعي لمعطيات أرضه وضمن حدوده، لديه المحافظة على القرية أمر سيادي، وإن لم يتعدَ سكانها الخمسين شخصاً بداراتها الملتصقة بمقدار الأصابع العشرة دون تجاوز، لكن الأهم في القرار أن تظل القرية مضيئة بالكهرباء ومتدفقة بالماء ومُعبدة في طرقاتها القليلة والضيقة، مع خدمات العيش لاستمرارية حياة أهلها استقراراً ومكوثاً، لتغيب تماماً فكرة الهجرة عنها…
لكن بالمقابل، وفي مدن متحكمة ومسيطرة وحديثة تتوسع بقوة في العالم العربي، تم إعدام الكثير من القرى حولها… بإهمال خدماتها وتركها على حالها، وأحياناً بقصد دمجها مع قرى أخرى قريبة منها… حتى هجرها أهلها فماتت قرية تلو الأخرى بمساحاتها المفتوحة.
ومنذ بعيد وتليد لا نعرفه أي حين تشكلت القرية بمفهومها الزراعي أو الجبلي أو الصحراوي… القرية في وجودها الكوني حين ظلت تناجي أجمل حالاتها وأقسى ظروفها وهي النائمة في محيط عينها. القرية بمجتمعها المنتج لا البسيط، القرية بحرفتها لا بسطحيتها، بجمال طبيعتها كما هي لا بتنسيقها المفتعل… فيا ترى أين ذهبت القرية؟.
ماتت قرى كثيرة في عالمنا العربي، حين زحف أهلها إلى عاصمتهم بتقاليدهم وأدواتهم مختلطين بأهل المدن الذين استهجنوا بدائيتهم، رغم أن المدني يرى أهل القرى بجمال هائل، لكن وهم في قراهم لا في المدن… وبإيقاع غامض ضاع ابن القرية في المدينة كما ضاع ابن المدينة من هجوم ثقافات لا تصلح أسلوبه العصري.
ماتت القرى وكان من الممكن إنقاذها بتوصيل كهربائي وإمداد مائي وعيادة ومدرسة وإن كانت بفصلين… ماتت القرى بناسها وعاداتها العميقة، ماتت وجدانياتها التي جعلتها قامة وأهلها متمسكين بها، وصغيرة إن رحلوا عنها…
وكمثال عجول للقرى الإنجليزية ممتلئة بالشباب أشغلتهم الحكومة بالحرف اليدوية، وقرى زراعية بالاشتغال في الأرض تجارة من خلال إرسال المواد الغذائية نحو المدن، وقرى يميل أهلها إلى التأمل أرست لهم مكتبة شاملة… إلى قرى متعثرة أي تلك التي تبعد بين بعضها البعض قليلاً، فتم إنشاء الخدمات المشتركة ونوادٍ تسهيلاً وتواصلاً… وبالتالي رفع المستوى الإنتاجي للقرى، والتصدير… وهذا ما فعلته فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية والصين…
ومن الطبيعي أن تبقى أعداد القرى أكثر بكثير من المدن، بوصفها شرياناً تمد المدينة بالكفاف، أما قطعها جراء الإهمال نتيجته زوال المؤن من صيد وزرع وحرفة وضمير… لتبقى حكايات القرية خالصة وموتها في عالمنا العربي أمر محزن.
المصدر: البيان