صحافي لبناني مقيم في لندن. حائز إجازة في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت وماجستير من معهد الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن.
تبدو منطقتنا العربية أشبه بحقل يابس الزرع أقدم أحدهم على إضرام النار فيه قبل أن يتنبه إلى أن الرياح تهب باتجاهه… وأنها ما إن تبدأ بالتهام الهشيم ستلاحقه ألسنة لهبها.
لماذا يبس الزرع؟ لأسباب عدة، منها الإهمال والتواكل ونقص الرعاية والعناية بالأجيال الصاعدة. لهذا فنحن، في السواد الأعظم من دولنا، ندفع ثمنًا باهظًا لضياع أجيال من شبابنا دفعهم الإحباط من الإخفاق المتنوع إلى اليأس والشعور بالتهميش… فغدوا لقمة سائغة لتجار التطرّف والانغلاق.
ولم تعالج حكوماتنا الفساد بل تعايشت معه عبر عقود، وسوّغته تحت شتى التسميات. فوجد شبابنا أنفسهم في حالة مفاضلة بين «أهون الشرين»، إما تقبّل الخضوع لما هو موجود على علاته، وإما النفور من كل شيء إلى اللاشيء.
أنظمة التعليم خذلته بعدما قرّرت التخلي عن فكرة التخطيط الواقعي الذي يوائم بين حاجات سوق العمل والإمكانات المطلوبة واللازمة للمؤسسات التعليمية والتأهيلية، فتدنّت قيمة الشهادة الجامعية، وتحوّلت إلى مجرد ورقة لاستجداء وظيفة، فكثر «الجامعيون» المصطفون اصطفافًا في طوابير التوظيف.. لوظائف غير موجودة على أرض الواقع، وهو ما يعني «البطالة المقنّعة».
حال الأسرة تغيّرت أيضًا. فخسرت الأسرة، مثل الفرد، حالة التوازن بين الانفتاح على التغيير، والمحافظة على التقاليد والأصالة وأخلاقيات المهنة. وحتى اقتصاداتنا، ولا سيما في دولنا البعيدة عن الاكتفاء الذي توفره الثروة النفطية، كانت إما ارتجالية، وإما «آيديولوجية» التوجيه، وإما فاسدة بالمطلق تحت شعار «اقتصاد السوق الحر».
كل هذه الآفات داخلية بنيوية. غير أنها تفاقمت في ضوء تطوّرات إقليمية لا يجوز إنكارها أبدًا، مع أنها في أغلب الأحيان كانت المشجب الذي عُلّقت عليه الإخفاقات… تهرّبًا من الإقرار بالحقيقة.
ولنبدأ بإسرائيل. صحيح تأخر العرب والمسلمون في فهم حقيقة إسرائيل، وما تمثله لشعبها والمؤمنين بها وللقوى الغربية العظمى التي وعدت بتأسيسها، ورعتها وغدتها وسلّحتها ولا تزال. تأخروا في استيعاب حقيقة أن إسرائيل «امتداد غربي»، بل هي في دولة كبرى كالولايات المتحدة «قضية داخلية».
ولكن في المقابل، آمنت مؤسسة السلطة والحرب في إسرائيل على الدوام بأن خير وسيلة للتعامل مع العرب – «كونهم عاقدين العزم على إزالة إسرائيل من الوجود» – هي سياسة «فرّق تسُدْ». وبالتالي، استثمار كل ما يزيدهم تخلفًا وبؤسًا، ومناهضة أي حركة تنويرية تطويرية عندهم حتى لو تقاطعت أهدافها المعلنة مع «المثاليات» التي روّجتها الحركة الصهيونية في الغرب والعالم لوليدتها حتى قبل أن تولد وتتحوّل إلى قوة إقليمية كبرى.
غلاة التطرّف في إسرائيل رفضوا بلا تردّد فكرة «الدولة الديمقراطية الواحدة» للإسرائيليين والفلسطينيين التي طرحتها قوى يسارية من الجانبين.. بحجة أنها تذوّب الهويّة اليهودية للدولة. وحتى عندما طرح «حل الدولتين» اللامتوازن جدّيًّا، فوق أنقاض معادلات «الحرب الباردة»، حرصت إسرائيل على نسف كل مقومات الحل، وتشجيع الانقسام داخل الصف الفلسطيني، والعمل على خلق الظروف المواتية لحرب أهلية فلسطينية – فلسطينية… تجعل من فكرة «الدولتين» مزحة سمجة عديمة المعنى.
لقد سعت مؤسسة السلطة والحرب في إسرائيل حتى في هذه اللحظات، بالذات، التي تقصف فيها قطاع غزة، إلى تقوية حجج التطرف الفلسطيني، وتدمير أي صدقية لأي جانب فلسطيني يسعى لحوار جدّي وصريح في العمق لا يقوم على مبدأ الاستسلام اللامشروط أولاً.
إسرائيل اليوم وفق «مدرسة» نتنياهو – بينيت – ليبرمان «الفكرية»، لا تريد محاورين، بل تريد مستسلمين يعيشون مرحليًّا في «بانتوستانات» مؤقتة إلى حين نضج وقت «الترانسفير». ولا أدلّ عن «البيئة الحاضنة» لهذه «المدرسة الفكرية» من ذهنية غلاة المستوطنين الذين قتلوا محمد أبو خضير حرقًا.
ولكن هذه «المدرسة» و«بيئتها الحاضنة» لم تنمُ اعتباطيًّا، بل كانت هناك ظروف مساعدة وفّرت لها الذرائع وجعلت لجرائمها ظروفًا تخفيفية مثل الدفاع عن النفس والرد بالمثل. وكمثال، أمامنا قضية خطف الشبان الإسرائيليين الثلاثة وقتلهم.
حقًّا هذه القضية بالذات تحفّز على التساؤل… لا، بل تستدعي التحقيق. كيف تبرّر جريمة بهذه البشاعة؟ مَن له مصلحة فيها؟ مَن خطط لها؟ مَن نفّذها؟ ولماذا في هذا التوقيت بالذات؟ وهل يمكن أن تكون قد غابت عن أذهان المخطّط والمنفّذ ردّة الفعل المحتملة من سلطة إسرائيلية متطرّفة قامت أساسا وتستمر على استرضاء غلاة المستوطنين؟
هنا نصل إلى الوجه الآخر للعملة. أي إلى الذين يزعمون أنهم يخوضون «معركة وجودية» دائمة مع إسرائيل. وهؤلاء، كما يظهر، يُقسمون إلى فريقين: الأول فريق شيعي متشدّد يمثله نظام الولي الفقيه في إيران وأتباعه وعملائه على امتداد عالمنا العربي. والثاني سنّي متشدّد في واجهته قوى الإسلام السياسي وكذلك الجماعات الجهادية «القاعدية» و«الداعشية» التي تنمو وتتكاثر في وجه الأطماع الإيرانية والعربدة الإسرائيلية في المنطقة.
ولكن مهلاً… جزء من الفريق الثاني (السنّي) على ارتباط وثيق بالفريق الأول (الشيعي). هذا الواقع معروف في غزة قبل أي مكان آخر، ونشاهده اليوم في عدد من المناطق العربية، بل حتى في حالات الإسلام السياسي السنّي الأقل تشدّدًا، كما نشهد في مصر والأردن والسودان… ليس هناك أي تضارب حقيقي في المصالح.
إزاء هذا الواقع الغريب بعض الشيء لا بد من الذهاب أعمق من السطح لاستكشاف «تقاطع» المصالح – لا تنسيقها وتماهيها – بين الأشكال الثلاثة من التطرّف الديني بشقه اليهودي الاستيطاني، وشقّيه الإسلاميين الشيعي الخميني – الخامنئي والسنّي الإخواني (بما في ذلك بالضرورة حركة حماس) والجماعات الجهادية «القاعدية» و«الداعشية».
من الواضح جدًّا من كوارث العراق وسوريا ولبنان وما تبقى من فلسطين، والمواقف الغربية منها، أن تخلّفنا وتراجع حصانة كياناتنا باتا يوفران الملعب الأرحب لـ«تقاطع» المصالح هذا ليلعب كما يشاء.. مدمّرًا الهوية العربية، لكنه قد يكتشف أنه مهدّد بإحراق نفسه مع هشيم المنطقة بعدما فقد السيطرة على اتجاه الريح.
المصدر: الشرق الأوسط