في المدينة الصاخبة بأضوائها وحركتها التي قليلاً ما تهدأ تعرف كم كنت محظوظاً في طفولتك التي تفاعلت أيامها مع نجوم السماء.من جرَّب تأمل السماء في الليالي المظلمة يتمنَّى -وقد صار ابن المدينة الجميلة- لو تنطفئ الأنوار كلياً لساعات كي يرفع رأسه فوق بحثاً غن نجوم السماء، تلك التي نشأ طفلاً يعدُّها نجماً نجماً ويعرف معظمها بالاسم والاتجاه.
متى آخر مرة نظرت فيها للسماء وتأمَّلت في نجومها وبعض شهبها؟ أحنُّ أحياناً لليالي الطفولة في جبال السراة حينما كانت العلاقة بالطبيعة إنسانية خالصة نرفع عبرها رؤوسنا نحو السماء كأننا نكلِّم نجومها ونتابع حركتها.
كبرنا وكبرت قرانا. هرب ظلام الليل من ليالينا. ولم نعد ننظر للسماء بحثاً عن قمرها ونجومها إلا نادراً. بل إن كسوف القمر -الذي كان مستحيلاً أن يفوتنا أيام طفولتنا- يحدث وينتهي وقد لا نعرف عنه إلا بعد رحيله بأيام.
قبل مدة، هربت بسيارتي ليلاً من المدينة إلى الصحراء. بحثت عن الظلام الدامس وبالكاد وجدته. أطفأت أنوار سيارتي وأغلقت هاتفي وتأمَّلت قليلاً نجوم المساء. كأنني ألتقي بأصدقاء طفولتي من بعد طول فراق.
يا الله، كيف كانت تلك النجوم مثل رفاق الطفولة وقد كنا نراها -نتبعها- كل مساء؟ أطلت النظر في السماء وحاولت أن أتعرف على نجومها من جديد لكنني أضعت الاتجاهات ونسيت الأسماء. كيف سرقتنا السنون من أنفسنا وكيف تطوي ذكريات الطفولة مع الطبيعة ونجوم المساء.
كانت نجوم السماء رفيقة أسفار أجدادي ودليلهم في رحيلهم الطويل. لكنها اليوم مجرد بقايا باهتة من ذكريات قديمة اندثرت مع أنوار المدينة التي أضعنا بسببها رفاق الأيام الخوالي، نجوم السماء النقية بهيبة مساءاتها الخالية من ضجيج الإضاءات الصاخبة!
نشرت هذه المادة في صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (١٢٤) صفحة (٣٦) بتاريخ (٠٦-٠٤-٢٠١٢)