في رحلتنا مع الحياة نعيش أدواراً متعددة، ونقوم بمهام مختلفة، كل على قدر الطاقة، وكل حسب البيئة التي وجد فيها نفسه والظروف التي أحاطت به، والتي لها كلمتها المؤثرة في طبيعة الدور الذي نقوم به، وهو في كثير من الأحوال يتم اكتسابه ولا يتم منحه، ففي الأسرة الواحدة تجد من وجد نفسه يتحمل مسؤولية إخوانه وأخواته، رغم أنه لم يكن مطالباً بذلك.
لكن الله منحه من سعة الصدر وحلم الخلق ولين الجانب واتساع رؤيته خارج اهتماماته الخاصة ليجد نفسه موثوقاً بحبل نفسي لا يملك هو ذاته إلا أن يكون حاضراً في شأن من حوله، وقد يكلفه ذلك الكثير من الوقت الذي يصرفه لغيره أكثر من نفسه، والمال الذي يعني العطاء من غير منّ، والجهد الذي يجده مبذولاً للآخرين، غير أن سعادته يجدها في ذلك، كما أنه بدونها يشعر أن هناك ما يفتقده.
تلك النوعية من البشر بمثابة هدية من الله إلى الناس باعتبار ما لديهم من العطاء الغامر دون أن يعتقدوا أنهم يقومون بذلك العطاء، وبهم تصلح الحياة.
وما أقسى الحياة وأجدبها لو عدمت هؤلاء، وهم الذين نظل نتذكرهم عند غيابهم، ونفتقدهم حين مماتهم، ونتلمس مواقفهم، ونتقمّصهم في أحيان كثيرة، وتظل تلك الأدوار تتوالى، ومنها لا شك ذلك الدور الذي نقوم به داخل أسرنا ومع أبنائنا على وجه الخصوص حين نوفر لهم في مرحلة عمرية محددة مقومات الحياة من مأكل وملبس ورعاية نفسية واجتماعية إلى أن يقوى العود.
ويشتد، نبدأ في تعليمهم قيمنا وما كبرنا عليه ومعه من أخلاقيات وسلوكيات وأفكار، وعند مراحل سنية وسطية نبدأ في معاملتهم كأصدقاء، فتتسع دائرة الأحاديث وتتنوع الموضوعات، غير أننا نظل نقوم بالدور ذاته، وهو الإلقاء والتعليم والإرشاد والتوجيه في مختلف المواقف، وهذا أمر طيب ومطلوب.
غير أن الكثير منا لا يعطي نفسه الفرصة للدخول إلى عالم جديد وهو عالمهم ويتجول فيه معهم، ولو حدث ذلك لوجد عالماً جديداً، واستكشف ما كان مخبوءاً عنه، منها أن أبناءنا خلقوا لزمان غير زماننا، وأن أعمارهم لا تقاس بالأيام، ولكن بمقدار ما يتعلمونه من مصادر لم تعد الأسرة أو الأب صاحب التحكم فيه.
كما أن ما يعرفونه أكبر بكثير من سنوات عمرهم المحدودة، كما أن دائرة اهتمامهم أوسع مدى من دوائر الاهتمام التي نظنها، كما أنهم أصحاب رأي خاص بهم ورؤية أكثر تسامحاً مع الغير وتقبلاً للاختلاف، كما أن دورهم معنا لم يعد دور المتلقي للنصيحة والمعلومة والتعلم، لكنك قد تجد نفسك في كثير من الأحيان تحتاج إلى أن تتعلم منهم وبخاصة في مجال استعمال التكنولوجيا والتي هي أقنية المعلومات.
إن أبناء اليوم لديهم الكثير والكثير، وإن حوارهم مدهش وممتع، وبخاصة أن حدود الزمن بالنسبة لهم قد تلاشت كثيراً، فالماضي والحاضر والمستقبل أصبح من الممكن التعامل معه بالنسبة لهم في وقت معاً، وتلك مسألة جديرة بالتوقف عندها كثيراً، إن أبناءنا الذين علمناهم في الصغر بما لدينا من فكر وثقافة ستجد أنهم يقومون بنفس الدور عندما يتقدم بنا العمر ونرغب في امتلاك أدوات العصر ستجدهم في الموعد قادرين على الانفتاح على الثقافات العالمية والتحدث بأكثر من لغة والتطلع إلى العمل في مجالات لم نعتدها أو نتطلع إليها في زماننا، بل .
وكذلك أشكال التعامل مع واقع الحياة اليومية، ولا أقصد بذلك انسلاخاً عن منظومتنا الثقافية ونسقنا القيمي، ولكن مع الاحتفاظ بهذا والإيمان به، وقد يكون أكثر لأنهم يعتقدون فيه بعدما اطلعوا على غيرها، فكانوا بها أشد تمسكاً وأكثر والتزاماً.
إن من يكتفي بالقيام بالدور المتعارف عليه بين الآباء والأبناء من الحديث في اتجاه واحد يحرم نفسه من مجال بالغ للسعادة، وهذا يتطلب أن يكون الآباء أكثر التصاقاً بأبنائهم، وأن يتيحوا من أوقاتهم فسحة أكبر للاجتماع بهم لحاجة مشتركة تجمع الطرفين، وأن نعود بالذاكرة إلى زمان حين كان يجلس الأب والجد إلى الأبناء لينقل إليهم حديث الأمس ويستمع منهم إلى لغة الحاضر.
فكان التواصل مستمراً واللغة واحدة والفكر متسقاً والاهتمام مشتركاً، لكن هذا السلوك المهم غاب أحياناً كثيرة، وفي تقديري أن من الأدوار المهمة للآباء أن يشاركوا أبناءهم الاهتمامات حتى ولو من باب الحفاظ على أحبال التواصل.
وأن يؤمنوا أنه قد يملك أبناؤهم مهارات جديرة بالنظر، وهنا تتأكد رؤية وحكمة القيادة الرشيدة في دولة الإمارات التي أكدت أن هؤلاء هم ذخر الوطن وحملة الراية والثروة الحقيقية التي يجب الاستثمار فيها، ففطنوا إلى ما لم يفطن إليه آباؤهم وهم بين جنبيهم.
المصدر: البيان