قبل شهر وعلى مدى أسبوعين، بين القاهرة وتونس، التقيت بعدد من الباحثين المصريين والتونسيين، في حوارات خاصة ببرنامج (حديث العرب) الذي أقدمه على قناة «سكاي نيوز عربية».
دارت حواراتنا في قضايا متنوعة، حسب تجارب الضيوف وتخصصاتهم، إلا أن الموضوع المشترك في أغلب اللقاءات، سواء في الحوارات الخاصة بالبرنامج أو في أحاديثنا الجانبية، خارج الاستوديو، كان حول التراث: علاقة أزمات الراهن بالتراث، كيف نقرأ التراث بعيون الراهن، متى يكون التراث نافعاً أو ضاراً للتعاطي مع الواقع المعاصر، وكيف ينظر المثقف الناقد لتراثنا، بغثه وسمينه. أسئلة وآراء كثيرة في العلاقة بين الراهن وبين التراث، وهي – في الغالب – أسئلة طرحت كثيراً منذ عقود طويلة، تعود للواجهة عند طرح السؤال القديم الجديد: لماذا تقدموا ولماذا تأخرنا؟
أعجبت بصوت العقل في أغلب الحوارات التي دارت حول هذا السؤال الذي ربما يعده البعض جدلياً ومكرراً بينما هو أساسي ومتجدد في زمن نجتر فيه قصص التراث وبعض وقائعه لمعالجة آلامنا، من فقر التنمية إلى فيروس كورونا. ليس من المنطقي أن ينادي أحد المتذمرين من سوء الراهن بقطيعة كاملة مع التراث، لأننا – بأشكال كثيرة – امتداد لذلك التراث، من لغتنا ووعينا وانتماءاتنا وأساطيرنا.
وفي الوقت ذاته لا يُعقل أن نسلم عقولنا لاجتهادات مَنْ قبلنا، ممن اجتهدوا وفقاً لمعطيات زمانهم وظروفهم، أصابوا أو أخطأوا حسب تقديرات زمانهم أو كما يقول الدكتور عبد الإله بلقزيز: «هم أبناء عصرهم». لا يمكن – أصلاً – أن تصلح أدوات ما قبل 100 سنة ليومنا الراهن، وكلما أوغلنا في الماضي تأكدنا من الهوة السحيقة بين ظروف الماضي وأحداثه وبين معطيات الراهن وعلاقاته وتعقيداته.
المشكلة أن هذا التراث (خصوصاً في جانبه الفقهي) ازداد استدعاؤه في زمن التقنية المتجددة، وفي زمن «السوشال ميديا» والانفتاح الكبير على العالم. والسبب في رأيي هو حضور خطابات التراث كمرجعية «شرعية» لخطابات الراهن مما جعل ابن العصر يستقبل مستجدات عصره وفق منظومة فكرية تعود لماضٍ بعيد ما زال حياً بيننا، يؤطر وعينا الراهن ويشكل – إلى حد كبير- خطابنا اليومي. ما زال الماضي البعيد حاضراً بقوة في مشهدنا اليوم، من رؤيتنا لأنفسنا وتقييمنا لهوياتنا وفهمنا للإيمان وعلاقاتنا ببعض.
وهكذا استغل خصومنا صراعات الماضي التي دارت في أرضنا لتأجيج خلافاتنا واتساع الهوة بين طوائف المجتمع وانتماءاته، وكأننا لم ندفن بعد ضحايا الخلافات والمعارك الدموية التي حدثت قبل أكثر من ألف عام. ثم إننا إلى اليوم لم نؤسس لمشروع قراءة نقدية لتراثنا، بموضوعية وعلمية واستقلالية، وهذا مشروع ضخم يحتاج أولاً إلى مؤسسات بحثية مستقلة، وباحثين جادين ومنصفين بحيث لا تغلب العاطفة الدينية على مشاريعهم فيكررون ذات الخطيئة بتقديس كل ما في التراث وتنزيهه عن أي نقد، ولا يدفعهم الإحباط من حاضرهم إلى نفي التراث وإعلان القطيعة معه وتحميله كل أوزار الهزيمة الحضارية.
إنه مشروع ربما شكل نقطة انطلاق نحو المستقبل لكنه حتماً محفوف بمخاطر مثل التكفير والإقصاء والتهميش فالعقلية التي أعدمت محمود محمد طه واغتالت فرج فودة واعتدت على نجيب محفوظ وأقصت نصر أبو زيد ما زالت حاضرة في المشهد (والوعي) العربي. ولهذا لا بد من تضافر الجهود بين المؤسسات البحثية والباحثين المستقلين من جهة والمؤسسات الحكومية من جهة أخرى. فالدولة هنا معنية بأفكار هذا المشروع، توفر لها الدعم والحماية من أجل ضمان السلم المجتمعي من جهة ودعم مشروع حضاري أساسي هو – في الواقع – ضرورة تنموية من جهة أخرى. وفي الوقت ذاته لا بد من التحذير من أساليب استفزاز العموم بطروحات نقدية ذات أسلوب صدامي لقضايا مكانها الأساس أروقة الجامعات ومراكز الأبحاث وروادها من النخب الأكاديمية والعلمية. كما تجدر الإشارة إلى أن كثيراً من المؤسسات الدينية التقليدية لن تكون مؤهلة للشروع أو المشاركة في مثل هذا النوع من الحوارات والدراسات النقدية لكونها، لعقود طويلة، لعبت دور الحارس الصلب لهذا التراث دون قبول أدنى محاولة لغربلة ونقد المخجل منه ناهيك عن تقديم مبادرات لمراجعات شاملة لمفاهيم ومقولات تراثية تتنافى مع أدنى مقومات التعايش والانفتاح على الذات والعالم.
المصدر: الاتحاد