من الجزائر إلى العراق مروراً بمصر والسعودية، ثمة حديث مستجد عن إعادة هيكلة الاقتصاد والعودة لمشروعات التنمية الشاملة، التي كانت سمة بارزة في حياة العالم العربي خلال الربع الأخير من القرن العشرين. نعلم أن تلك المشروعات قد غيرت صورة البلدان العربية، لكنها لم تصل إلى غاياتها الكبرى، أي إقامة اقتصاد ذي قاعدة إنتاج واسعة متنوعة، يحقق الرفاه والعدالة للمواطنين كافة.
خلال العقدين الماضيين، برز النموذج الصيني في التنمية، كدليل على أنه لا يوجد مثال كوني وحيد للنمو الاقتصادي والاجتماعي. نجح مشروع مارشال في أوروبا لأنه طبق في أوروبا. ولا نعلم مصيره لو طبق في غيرها. وخلال الخمسين عاماً الماضية طبقت توصيات صندوق النقد الدولي في عشرات من دول أفريقيا وآسيا، لكنها أخفقت في إعادة التوازن إلى اقتصاديات هذه البلدان، فضلاً عن تحقيق أهداف التنمية المتوخاة.
يقول خبراء الصندوق الدولي إن التحول الاقتصادي الذي يدعون إليه لن يتحقق في عام أو عامين. فهو علاج طويل الأمد لمشكلات مزمنة. وأذكر أن البروفسور هوما كاتوزيان الذي درس التجربة التنموية في إيران خلال السبعينات، كان قد أشار إلى هذه المسألة بالتحديد، حين وصف المجتمع الإيراني بأنه ملول أو سريع الضجر short – term society بمعنى أنه ينشغل بالإنجازات الفورية، حتى لو كانت على حساب الأهداف الكبرى التي تحتاج عملاً على المدى الطويل. واحتمل أن المجتمعات العربية تعاني المشكل ذاته. فهي تريد حلاً فورياً لمشكلة البطالة، مع علمها بأن الحلول السريعة ليست سوى أسبرين، يخفي الألم ولا يعالج مصدره. وهي تريد حلاً لمشكلة الفقر بزيادة الإنفاق الحكومي، وليس بتوسيع القاعدة الإنتاجية التي تستوجب الانتظار سنوات قبل رؤية ثمراتها، رغم أنها تشكل علاجاً حقيقياً للمشكلة وليست مجرد أسبرين.
لم تتبع الصين توصيات صندوق النقد الدولي، ولم تأخذ بنظرية التنمية السائدة في الأكاديميا الغربية، بل اختطت طريقها الخاص، حين أعلنت في 1979 برنامجاً طموحاً يستهدف الوصول إلى مرتبة منافسة للاقتصاديات الصناعية.
يوم أطلق البرنامج، ووجه بالسخرية. وقيل إنه مجرد غطاء للتحرر من التقاليد الآيديولوجية المتشددة لعصر ماوتسي تونغ. لكن اتضح لاحقاً أن ذلك البرنامج كان «طريق الحرير» العصري للصين الجديدة. بين 1979 و2003 ارتفع الناتج الوطني الإجمالي إلى 1425 مليار دولار، بمعدل نمو سنوي يصل إلى 9 في المائة، وهو أعلى معدل في العالم يومئذ. كما انخفض عدد الفقراء من 260 مليوناً إلى 30 مليوناً بين عامي 1978 و2000. وتضاعفت قيمة الصادرات الصينية بما يصل إلى 40 ضعفاً.
نجاح النموذج الصيني كان ثمرة لموازنة دقيقة بين المعايير المتعارفة كونياً، مثل سيادة القانون والتركيز على التعليم والإبداع العلمي وحرية الاستثمار المحلي والأجنبي، وبين متطلبات محلية مثل حماية الطبقات الفقيرة، لا سيما في الريف، والمحافظة على قدر معقول من التحكم في كلف الخدمات العامة، والاستفادة القصوى من ميزات نسبية مثل توفر الخامات والعمالة الرخيصة.
بعبارة موجزة، فإن «تقليد» النماذج الناجحة ليس شرطاً لازماً لنجاح التنمية في هذا البلد أو ذاك. على العكس من ذلك، فإن النجاح رهن بالاستثمار الأمثل للإمكانات المحلية، وتحويل التنمية من سياسة تنفذها هيئات حكومية محددة، إلى مشروع وطني يجد فيه كل مواطن فرصة لإبراز قدراته وإمكاناته، حتى يصل من خلاله إلى صورة المستقبل التي يريدها لنفسه ولأبنائه.
المصدر: الشرق الأوسط