صحافي لبناني مقيم في لندن. حائز إجازة في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت وماجستير من معهد الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن.
تعبير «الربيع العربي»، الذي يمجّه كثيرون من الأصدقاء.. أطلقته وسائل الإعلام الغربية. وأقدَم «ربيع» أتذكّره جيدا كان «ربيع براغ» عام 1968 عندما أطلق الزعيم التشيكوسلوفاكي (آنذاك) آلكسندر دوبتشيك – وهو سلوفاكي – موجة إصلاحية تتحدى النهج الشيوعي التقليدي الذي سارت عليها تشيكوسلوفاكيا بعد الحرب العالمية الثانية، ولا سيما في عهد أنطونين نوفوتني بين 1953 و1968. وبعد تجربة إصلاحية قصيرة دخلت دبابات حلف وارسو براغ، بموجب «شرعة بريجنيف» فأسقطت دوبتشيك وسلّمت الحكم لغوستاف هوساك… وقُضي على براعم ذلك «الربيع».
وتيمّنًا بالموجة الليبرالية التي عاشتها براغ، أطلق الإعلام الغربي أيضا تسمية «ربيع بكين» بين 1977 و1978 على النزعة الإصلاحية الليبرالية التي انتهجتها القيادة الشيوعية الصينية حينذاك. غير أن الزعيم المخضرم دينغ هسياو بينغ، الذي صدمته اعتصامات الجماعات المتعجلة تطبيق الديمقراطية في قلب العاصمة بكين، تحفّظ عن السير بسرعة في إجراءات التحرّر الاقتصادي والسياسي على وقع تصفيق الغرب، فأمر وحدات الجيش المرابطة في منشوريا بفض الاعتصامات بالقوة. ومجدّدا قضي على براعم التغيير الإصلاحي.
القصد من هذه الرجعة التاريخية أن «الربيع العربي» كتسمية يعني محاولة تغيير فاشلة، أساسا، لأن الظروف الموضوعية للتغيير الضروري ما كانت مواتية. فالقيادة السوفياتية ما كانت مترهلة عام 1968، وأرياف الصين حيث يعيش السواد الأعظم من الصينيين ما كانت على تواصل مع نبض نخب المدن التوّاقة إلى الانفتاح على الغرب.
في عالمنا العربي كان التغيير ضروريا، إذ ما كان منطقيا استمرار أنظمة حكم تزعم أنها «جمهورية» وتجري انتخابات وتحكمها أحزاب ولجان شعبية، وبعضها يتباهى بأنه يحكم باسم المقاومة والممانعة والنضال الثوري، عبر سلالات عائلية تحتكر السياسة والاقتصاد والنفوذ والأمن.. لأكثر من أربعة عقود. وبالتالي، كان من الطبيعي تراكم الاحتقان والتوق إلى التغيير. أما المشكلة الكبرى، كما تبين لنا لاحقا، فكانت مشكلة «البديل». أي «بديل» حقا كان مؤهلا أو جاهزا أو مقبولا… لوراثة تلك «الجمالك» (الجمهوريات الملكية) التي لم يعد بمقدورها تجديد دمائها، والتأقلم مع المتغيّرات من حولها، ولا سيما تحت ضغوط الأزمات الاقتصادية – المعيشية.
ظاهرة محمد البوعزيزي في تونس جاءت ظاهرة احتجاجية على واقع معيشي سيئ، ولا علاقة مباشرة لها بالقضايا السياسية الإقليمية والدولية. والشيء نفسه تقريبا يصدق على الانتفاضة الشعبية السورية، تُضاف إليها عوامل سياسية – اجتماعية في مصر، وتوليفة من العوامل القبلية التي يفاقمها ضمور مؤسسات السلطة وغياب روح المواطنة في حالتي اليمن وليبيا.
البديل الجاهز الأقوى في معظم الحالات كان «الإسلام السياسي»، لجملة من الأسباب، في طليعتها أن الإسلام هو دين الغالبية العظمى من العرب، وأن الجماعات التي ترفع الشعارات الإسلامية وتنضوي في تنظيمات إسلامية أفضل من منافسيها تنظيما، وأعمق تجربة في ممارسة العمل السرّي، وأكثر موارد مالية، وأقل تلطخا بما يُزعَم من فساد الأنظمة القائمة. وبالتالي، لعب الإسلاميون – بمختلف أطيافهم – دورا مؤثرا في مرحلة ما بعد التغيير.
غير أن تجربة التغيير في دول «الربيع العربي» سرعان ما واجهت أزمات بنيوية تنتهي اليوم إلى ما نراه من انهيارات تفضي إما إلى «دول فاشلة» أو وصاية أجنبية مكشوفة… أو الحالتين معا. ولعل تونس، بفضل القوة النسبية المتبقية للبنى السياسية والتقاليد النقابية والمؤسسات والحريات الاجتماعية، الدولة التي ودّعت «ربيعها» بأدنى نسبة من الخسائر. كذلك يمكن القول إن مصر أيضا سلِمت من الأسوأ، وهي التي تمتعت طويلا بالتماسك الاجتماعي في ظل سلطة (أو سلطات) قادرة على الحكم بصرف النظر عن وجود الديمقراطية وفق التعريف الغربي المألوف.
ومن المفيد التذكير في هذا السياق بأن الزعيم الوطني التاريخي سعد زغلول تولى السلطة لأقل من سنة واحدة، في حين تولاها إسماعيل صدقي باشا المناوئ للديمقراطية وحزب الوفد ذي الشعبية الواسعة – لأكثر من ثلاث سنوات متصلة إبان الحكم الملكي.
الوضع في سوريا واليمن مختلفٌ تماما، وهو ينذر بالأسوأ بتفاعله مع العامل الإيراني. كذلك ينذر بالأسوأ دخول ليبيا نفقا مظلما يبدو أن لا إمكانيات محلية مؤهلة لإخراجها منه، والحؤول دون التقسيم أو الفوضى.
بالأمس أطل وليد المعلم، وزير خارجية النظام السوري، ليكشف «استعداد» نظامه للمساهمة في حرب على جماعات إرهابية، أسهم هذا النظام وحلفاؤه الإقليميون في «فبركتها» ورعايتها وتغذيتها واستغلالها. هذا الكشف لم يفاجئ مَن يعرفون طبيعة النظام ورهانه الدائم – مع حلفائه الإقليميين – على استثمار التطرّف الديني ليكون مبرّر وجوده، و«الفزّاعة» التي يبرزها حين تقضي الحاجة أمام الغرب. وكيف لا.. بعدما أقنع هذا الغرب – عبر سفرائه في دمشق – بأنه «علماني» وليبرالي ويشكل ضمانة للتنوع الإثني والديني والطائفي في الشرق الأوسط، ناهيك من حمايته حدود إسرائيل الشمالية. وحقا حتى اندلاع الانتفاضة السورية كان سفراء الدول الغربية مقتنعين بهذا، كذلك كان بعض رؤساء الكنائس وما زالوا يروّجون لهذا الانطباع، أما إسرائيل فمرتاحة لجبهة صامتة في الجولان منذ 1974.
من جهة ثانية، كان من مصلحة الجميع، بمن فيهم حكّام العراق، تجاهل تعامل دمشق الوثيق مع الجماعات الإرهابية المتطرفة وتسهيل إدخالها إلى العراق لمشاغبة القوات الأميركية والتعجيل بانسحابها منه تمهيدا لتسليمه لإيران. وها هي رعاية «داعش» تعطي ثمارها اليوم عبر تفكير الغرب بإعادة تأهيل نظام قاتل، على أنقاض سوريا والعراق، وربما لبنان مستقبلا. وها هو الرهان الإيراني المدعوم تكتيكيا من موسكو، يحقق انتصارا لا يجوز التقليل من شأنه بوجود رئيس أميركي جعل التفاهم مع طهران أحد أبرز ثوابت سياسته الشرق أوسطية. وثمة وجه لهذا الانتصار الإيراني نشهده أيضا في اليمن، حيث غدت صعدة، عاصمة الحوثيين، محط الرّحال لاستجداء التسويات السياسية.
باختصار، نحن الآن أمام تحدّ وجودي حقيقي، أشك في أننا نستوعبه ونتعامل معه كما يجب.
المصدر: الشرق الأوسط
http://classic.aawsat.com/leader.asp?article=784793