كاتب وإعلامي من دولة الإمارات العربية المتحدة
«يحدث أحياناً في مساءٍ بطيءٍ عَبُوسٍ أن يتسكع بعض أهالي سمرقند في درب الحانتين غير النافذ بالقرب من سوق الفلفل، لا لكي يذوقوا خمرة الصُغْدِ المُمَسَّكة، وإنما ليرقبوا ذهاب الناس وإيابهم، أو ليخاصموا شارباً ثَمِلاً.
وعندئذ يُمرَّغ الرجل في الغبار، وتُكال له الشتائم، ويُنذَر لجحيمٍ تذكِّره نارها، حتى آخر الدهور، بحُمرة الخمرة المُغْوِية. ولسوف يولد من قبل هذه الحادثة في صيف 1072م مخطوط الرباعيات. فعمر الخيّام في الرابعة والعشرين، ولمّا يَمْضِ على وجوده في سمرقند كبيرُ وقت. فهل كان ذاهباً إلى الحانة في ذلك المساء، أم أن صُدْفَة التسكّع هي التي حملته؟».
هكذا يلج الأديب اللبناني أمين معلوف إلى روايته الشهيرة «سمرقند». ومن خلالها يربط الخيوط التي جمعت شاعر «الرباعيات» الشهير عمر الخيّام بالوزير السلجوقي الأعظم نظام الملك، وزعيم «فرقة الحشاشين» حسن الصباح.
خيوط حاولْتُ أن أقتفي أثرها وأنا أعبر شوارع سمرقند، مستدعياً تاريخاً شهدته هذه المدينة العريقة، منذ أن دخلها القائد المسلم قتيبة بن مسلم الباهلي فاتحاً مرتين، إلى أن اتخذها تيمورلنك عاصمة لملكه، ونقل إليها الصُنَّاع وأرباب الحرف لينهضوا بها، حتى غدت واحدة من حواضر العالم المشهود لها.
«في سالف العصر والأوان، عندما كان الذئب هجاماً، والثعلب متلصصاً، والغراب عازفاً، والعصفور نماماً، والسلحفاة وزانة، والخنزير البري جزاراً، والضفدع بصاصاً، عاش في هذا الزمن البعيد رجل عجوز لا هو بالشبعان ولا هو بالجوعان مع زوجته العجوز.
عاش الاثنان في فقر شديد، وكان لديهما حوش به زير متواضع من الفخار لا أكثر ولا أقل. كان العجوز يرتزق من صيد السمك، وزوجته تخرج إلى البيوت لتنظيفها.
هكذا عاش الاثنان معاً، ولم يكن لديهما أبناء، وكانا يتمنيان بشدة لو أن الله منّ عليهما بطفل. وفي أحد الأيام قال العجوز لزوجته: يا زوجتي العزيزة، لقد بلغت الخامسة والخمسين من العمر، وأنت قد بلغت الخمسين، وليس لدينا أولاد ولا بنات.
فماذا يكون مصيرنا عندما نهرم ونشيخ، ولا نقدر على الخروج إلى العمل؟ ومن سوف يشعل الشموع فوق قبرينا بعد موتنا؟ فهيا بنا نبتهل إلى الله متوسلين وراجيين أن يرأف بحالنا ويرزقنا بطفل. وظل العجوز وزوجته يبتهلان طويلاً إلى الله داعيين أن يرزقهما بولد، واستجاب الله إلى دعائهما، وأنجبت العجوز طفلاً أسمته صاحب جان».
هكذا تبدأ قصة «صاحب جان وأحمد جان» التي تشكل واحدة من أساطير أوزبكية، ترجمها وجمعها عبدالرحمن عبدالرحمن الخميسي، وصدرت في جزأين تحت عنوان «أساطير شعبية من أوزبكستان».
وهي قصص تنم عن تراث مرتبط غالباً بالمعتقد الديني، حيث يتجلى في أوزبكستان الاهتمام بالأضرحة والمقامات والمساجد. ومثلما يظهر هذا التراث في عمارة المدن، فإنه يظهر أيضاً في فنون النقش والنحت والتصوير، وفي الحكاية الشعبية والقصائد وفنون الغناء والرقص.
وهي ثقافة اصطبغت، بعد فتح سمرقند على يد قتيبة بن مسلم الباهلي، بطابع يعتز بالتراث الإسلامي لهذا البلد، حيث خرج من أوزبكستان مجموعة من العلماء، مثل البخاري والترمذي والخوارزمي والبيروني وابن سينا.
«نادى الغلام: يا قتيبة، هكذا بلا لقب، فجاء قتيبة وجلس هو وكبير الكهنة أمام القاضي «جُميْع». ثم قال القاضي: ما دعواك يا سمرقندي؟ قال: اجتاحنا قتيبة بجيشه ولم يدعنا إلى الإسلام ويمهلنا حتى ننظر في أمرنا.
التفت القاضي إلى قتيبة وقال: وما تقول في هذا يا قتيبة؟ قال قتيبة: الحرب خدعة، وهذا بلد عظيم، وكل البلدان من حوله كانوا يقاومون ولم يدخلوا الإسلام ولم يقبلوا بالجزية. قال القاضي: يا قتيبة، هل دعوتهم للإسلام أو الجزية أو الحرب؟ قال قتيبة: لا.. إنما باغتناهم لما ذكرت لك. قال القاضي: أراك قد أقررت، وإذا أقر المدعي عليه انتهت المحاكمة
. يا قتيبة، ما نصَر الله هذه الأمة إلا بالدين واجتناب الغدر وإقامة العدل. ثم قال: قضينا بإخراج جميع المسلمين من أرض سمرقند من حكام وجيوش ورجال وأطفال ونساء، وأن تترك الدكاكين والدور، وأنْ لا يبقى في سمرقند أحد، على أنْ ينذرهم المسلمون بعد ذلك!
لم يصدق الكهنة ما شاهدوه وسمعوه، فلا شهود ولا أدلة، ولم تدم المحاكمة إلا دقائق معدودة، ولم يشعروا إلا والقاضي والغلام وقتيبة ينصرفون أمامهم. وبعد ساعات قليلة سمع أهل سمرقند جلبة تعلو، وأصواتاً ترتفع، ورأوا غباراً يعم الجنبات، ورايات تلوح خلال الغبار، فسألوا فقيل لهم إنَّ الحكم قد نُفّذَ، وإنَّ الجيش قد انسحب في مشهدٍ تقشعر منه جلود الذين شاهدوه أو سمعوا به.
وما إنْ غرُبت شمس ذلك اليوم إلا والكلاب تتجول بطرق سمرقند الخالية، وصوت بكاءٍ يُسمع في كل بيتٍ على خروج تلك الأمة العادلة الرحيمة من بلدهم، ولم يتمالك الكهنة وأهل سمرقند أنفسهم لساعات أكثر، حتى خرجوا أفواجاً، وكبير الكهنة أمامهم، باتجاه معسكر المسلمين وهم يرددون شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله.
بقي أن تعرف أن هذه الحادثة كانت في عهد الخليفة الصالح عمر بن عبدالعزيز، حيث أرسل أهل سمرقند رسولهم إليه بعد دخول الجيش الإسلامي لأراضيهم دون إنذار أو دعوة، فكتب مع رسولهم للقاضي أن احكم بينهم، فكانت هذه القصة التي تعتبر من الأساطير». ذكر هذه القصة الشيخ علي الطنطاوي في كتابه «قصص من التاريخ»، كما ذكرتها كتب كثيرة.
هاتف من سمرقند، هو كل ما حملته معي من هناك، ولَعَمْري إنه هاتف عميق الأثر.
المصدر: البيان