كاتب متخصص في الإدارة
سُئِل سقراط: «لماذا تم اختيارك أحكم حكماء اليونان؟»، فقال: «ربما لأنني الرجل الوحيد الذي يعترف بأنه لا يعرف». والمتأمل لهذه العبارة يجد أنها بالفعل إحدى صفات القائد الحكيم، وهي أنه لا يتباهى بمعارفه، بل يضعها رهن إشارة السائل، ولا تتدفق درره ومعارفه إلا وقت الحاجة.
والقائد الحكيم يؤمن بأن «الأفعال أبلغ من الأقوال»، ولذا يدرك أهمية ممارسة أسلوب القدوة الحسنة أو «Leading by example».
والقائد الحكيم هو الذي يفرق بين «السرعة» في اتخاذ القرار حينما تكتمل أركانه، وبين «التسرع» الذي يجانبه الصواب في أحيان كثيرة. ومن علامات الحكمة حينما نرى في خضم النقاشات الصاخبة والعقيمة كيف يفرق القائد في مداخلاته بين الرأي والحقيقة، فالحقيقة مسلمات قلما تكون مجالاً للنزاع، أما رأينا فصواب يحتمل الخطأ، كما قال الشافعي.
وسميت الحكمة بذلك لأنها تأتي من «حَكم» الشيء أي أجاد إحكامه، ومن تعريفاتها معرفةُ أفضل الأشياء بأَفضل العلوم، وهذا أحد الأسباب التي تدفع بالقائد الحكيم، لأن يحيط نفسه بأفضل المستشارين البارزين في مجالاتهم ويصغي لهم ويحترمهم بالدرجة نفسها التي يزدري فيها المنافقين والمطبلين من حوله. كما أن ارتباط الحكمة بالعلم- كما قلنا- يجعل القرارات الحكيمة قابلة للاستيراد، وذلك باستشارة أصحاب الخبرات. وكما قال الشاعر:
«فخذوا العلم على أربابه.. واطلبوا الحكمة عند الحكماء».
وقال أيضاً:
«إذا كنت في حاجة مُرْسِلا.. فأرسل لبيبًا ولا توصهِ..
وإن باب أمر عليك التوى.. فشاور حكيماً ولا تعصهِ».
والقائد المحنّك لديه حاسة شم قوية يفرق بها بين من ينبع نقده من حبه لمؤسسته أو وطنه، وبين من يدس نقده بين الناس ووسائل التواصل ليشيع الفوضي إشباعاً لروح الانتقام والحسد الدفينة. وحكمة القائد تولّد لديه «مقدرة التمحيص» في التقارير التي تصله فيفرق بين التلفيق النابع من حب الحاشية في الانتقام من خصومها، وبين ما يضر المؤسسة ككل.
والقادة الحكماء يدركون جيداً أن مقولة «خذ الحكمة من أفواه المجانين» لا تقتصر على لحظات التندر والملاطفة، بل قد يكون في مقترح بسيط يتناهى إلى أسماعهم أساس لقيام مشروع قيّم يحل معضلة مستعصية أو يسهم في تخفيض المصاريف أو زيادة الأرباح. ويصعب أن نتخيل شخصاً يمارس الحكمة، ولا يُحسِن حجب انفعالاته وعواطفه في لحظة اتخاذ القرارات الجادة والحاسمة، ولا يدرك أن العاطفة لا تستخدم إلا في الموضع المناسب بعيداً عن حالات الانفعال.
هناك من تُراكم خبراته واجتهاداته في الحياة معيناً لا ينضب من الحكمة، وهناك من يهبه الوهاب الحكمة هبة. وصدق القائل في محكم كتابه الكريم «يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِي خَيْرًا كَثِيرًا».
المصدر: البيان