كاتبة لبنانية
إلى جانب الحرب والتقاتل المباشر، اعتدنا في لبنان على موجات من الصدام الكلامي وسوء الفهم الجماعي الذي يطغى فيه السباب والشتيمة وتسيّد مشاعر الكراهية والنفور.
حدث ويحدث ذلك فيما بيننا كطوائف مسيحية ومسلمة ومذاهب كسنة وشيعة على سبيل المثال.
نعم، أظهرت الحرب التي ودعنا ذكراها الأربعين قبل أيام أننا عالقون في قلب طوائفنا وأننا مجموعات تتصادم وتتقاتل وتتبادل الاتهامات. تبين لنا قبل غيرنا أن تركيبتنا الطائفية هي المصدر لمشاعر الكره أو الحب تجاه بعضنا بعضا وتجاه غير اللبنانيين من إسرائيل إلى سوريا إلى إيران إلى تركيا ودول عربية وخليجية.
كثيرا ما عيّرَنا عرب في معرض نقدهم للبنان وتجربته بأننا طوائف.. هذا صحيح، نحن طوائف وهذا ليس إعجابا لكنه اعتراف. المشكلة أن كثيرا من العرب وبعد عام 2011 اكتشفوا ما كانوا ينكرونه علينا ويدعون الطهارة منه، وهو أن كثيرين منهم طوائف أيضا وجماعات انفجرت علاقاتها وتحولت حروبا واقتتالا.
لبنان لم يكن يوما بمنأى عن محيطه والعالم، بل كان بوابة مشرعة أمام التأثيرات الخارجية بما في ذلك من سلبيات وإيجابيات. وتوازنه الطائفي لم يلغِ قوة الطائفية التي تجلت في الثقافة والفن والسياسة نوعا ما.
كنا كجماعات وطوائف أقوى من الدولة، لذلك حين تشرذمت وضعفت هذه الدولة لم يسقط البلد تماما، بل بقي رغم كل عوامل الانفجار عصيا على الانهيار الكامل، بينما أثبتت تجارب محيطة بنا كالعراق وسوريا مثلا أن انهيار الدولة يعني سقوطا كاملا للبلد.
مجددا، هذا ليس مديحا للطوائف والجماعات ولا إعجابا بها، بل هو دعوة للاعتراف بوجودها كمدخل أول للفهم وللنقاش العلني الصريح في محاولتنا احتواء الانفجارات الكثيرة التي تشتعل حولنا في سبيل الوصول يوما ما إلى دولة المواطنة لا دولة الطائفة والجماعة.
واليوم كما بالأمس تتكرر في لبنان حالات سوء الفهم والصدام. يحدث هذا في الداخل كما يحدث مع محيط عربي أوسع، فهناك سجال لبناني فلسطيني قديم قدم الحرب اللبنانية، وهناك سجال سوري لبناني يتجدد دائما ولم يطوَ بعد، هناك خلاف مستجد في لبنان حاليا بشأن مئوية الإبادة الأرمنية على يد جنود السلطنة العثمانية.
اللائحة طويلة فعلا، وها قد أتت أزمة اليمن لتدخل عناصر إضافية على الاحتقان. هذه المرة ظهر احتقان سعودي لبناني.
لست أتحدث هنا عن المواقف الرسمية أو الحزبية، فتلك لها ساحاتها، لكن ما أشير إليه هو الانجراف من قبل معلقين وكتاب سعوديين ولبنانيين نحو لغة تنضح منها الكراهية والتعميم والتحقير.
في سياق تبادل التهم مع إيران وضدها يهاجم معلق لبناني البداوة فيرد كاتب سعودي بأن لبنان مرض.. ينقسم جمهور المعلقين على «تويتر» و«فيس بوك» معممين تلك اللغة المبتذلة، لاعبين على التناقضات اللبنانية والإقليمية وساعين إلى توسيعها ونفخ الهواء في نارها بغية مزيد من الاشتعال. هذا الخطاب تكرر في أكثر من وسيلة إعلامية وعبر أكثر من شخصية وانجرف إليه لبنانيون وسعوديون.
كلبنانية ومن موقع خصومة مديدة مع حزب الله ومع أدواره الداخلية والإقليمية ومع مشاريع أخرى لا تمثل طموحي في بلدي، أشعر أن شمل اللبنانيين بالشتيمة يصيبني، وهو تماما ما أصابني حين سمعت كلاما مبتذلا وعنصريا بحق السعوديين.
لعل علينا جميعا أن نأخذ نفَسا عميقا قبل أن نطلق العنان لألسنتنا، فالأزمات التي تتقاذفنا لا تبدو أنها ستطوى سريعا، وحتما لن يكون علاجها بسباب وشتائم موتورة وهجمات شعبوية سخيفة.
ليست هذه دعوة لدفن الرأس في الرمل أو عدم تحديد المسؤوليات والأخطاء، لكن من المخجل الانجراف وراء ذاك الدرك المتدني من التخاطب بغية استرضاء غرائز الجماعات. فهذه الشعبوية لا تهدف إلى استيعاب ومواجهة ما يحصل، بل إلى اللعب على وتره.
في المقابل وعلى قدر ما تبدو الشتيمة المجانية معبّرة عن أزمة لدى مطلقها، فإن المديح المجاني أيضا لا يقل ابتذالا ونفاقا.
لعلنا نتمكن من أن نتخاطب متجاوزين حالتي الشتيمة والنفاق.
المصدر: الشرق الأوسط
http://aawsat.com/home/article/346251/