حينما انطلقت بوادر ما ظنناه «ربيعاً» عربياً، لم يكن أمام من احتفى به غير التصفيق والتفاؤل بمستقبله. وكيف نلوم الظمآن التائه في صحراء قاحلة إن ركض خلف السراب؟ لا ماء في السراب، وحتى اليوم، لا ربيع في «الربيع»!
بعضنا يصف المشهد اليوم بالربيع الإسلامي، وآخرون يكابرون ويصرون على أنه «الربيع العربي»، وأياً تكن التسمية؛ فالنتيجة واحدة. واقع العالم العربي – على أغلب الأصعدة – يبقى أسوأ مما كان عليه قبل عامين، وتلك نتيجة في عداد «تحصيل الحاصل» بعد ستة عقود من الضياع والفوضى والقمع والاستبداد، لكننا نحن الذين صفقنا لما ظنناه «ربيعاً»، نسينا في غمرة الاحتفال ببدايات ما جرى، جملة من الحقائق المهمة تشكل السدّ المنيع في وجه «الربيع»، فغير أننا شعوب تحركها العاطفة وتلتف حول صاحب الصــــوت الأعلى، ورثنا ثقافة تُبجل الحاكم، وتصنع منه أحياناً طاغية ومستبداً، وحتى مفهوم الدولة عنـــــدنا شائك وملتبـــــس، فـ «الأمة»، في خطاباتنا الدينــــية، وخــصوصاً عند التيارات الأصولية، تأتي قبل الوطن إن لم تكن هي «الوطن»، و «الدولة» في تراثنـــا هي غنيمة المنتصر، ولم تتأسس لدينا، حتـــى اليوم، ثقافة تستبدل مفهوم «السلطة» بفكرة معاصرة تتمثل في «الإدارة» لا أكثر ولا أقل. وهنا مربط الفرس، فما لم تكن الإدارة المؤهلة هي مصدر «شرعية» مؤسسة الحكم، فسيظل الصراع السياسي قائماً على أساس البحث عن «شرعية» تبرر البقاء في السلطة طويلاً! من هنا وُظف الدين على مر القرون لإسباغ «الشرعية» حتى على أشد الأنظمة السياسية شمولية وفساداً واستبداداً. ألم يأمر صدام حسين حينما اشتد الحصار عليه بإضافة «الله أكبر» على العلم العراقي؟
وإذا كانت الأنظمة التي تباهت يوماً بعلمانيتها استغلت الدين حينما ضاق عليها الحصار، ووظفته من أجل إيهام «الشعب» بشرعيتها، فما بالك بالأحزاب والجماعات التي تصف نفسها، ومنذ نشأتها الأولى، بالدينية؟ ولهذا نشهد اليوم استمراراً لأحد أركان المشكلة، وهو إهمال «الإدارة» من أجل إثبات «الشرعية» السياسية، وفرضها على الناس في شكل جديد تحت غطاء الديموقراطية وصناديق الاقتراع. هذا الإهمال قاد – من قبل – إلى كوارث تنموية مرعبة، جعلت من العالم العربي مُصدّراً لأخبار العنف والتطرف والحروب، وشواهد تخلفنا التنموي أكثر من أن تُحصى. اذكر لي اسم جامعة عربية شهيرة يتنافس على الدراسة أو العمل فيها الطلاب والأساتذة من كل بقاع الدنيا؟
أعطني مستشفى عربياً واحداً يحرص المرضى المقتدرون من العالم العربي أو من خارجه على العلاج فيه؟
دُلني على مركز أبحاث وابتكار عربي أذهل العالم بإنجازاته أو اكتشافاته؟ وعليك أن تسأل السؤال الأكثر إحراجاً: ماذا قدمنا للحضارة الإنسانية على مدى الـ100 عام الماضية؟ وعلى المدى القريب: لماذا تزداد نسب البطالة والأمية ويتراجع مستوى الخدمات والأداء والنمو؟ ومهما اشتد الجدال بيننا حول من يسبق من، التنمية أم الديموقراطية، تبقى المشكلة الحقيقية أننا ننتمي لثقافة اختزلت فكرة «السلطة» في الهيمنة والاحتكار، وفسرت قوة الدولة في القمع والكبت والاعتقال، وكل هذا يأتي على حساب التنمية الإنسانية الشاملة، من رصف الطرق وبناء المدارس إلى إنشاء المؤسسات وتأسيس الأنظمة والقوانين ومراقبة الأداء ورصد الفساد، وهكذا لم نحقق لا تنمية ولا ديموقراطية إلا فيما ندر!
إننا عملياً بحاجة إلى ربيع «فكر» قبل ربيع «سياسة»، ربيع يحتفي بالأفكار الجديدة ويؤمن بالتنوع والتعدد في الآراء والقناعات، ويؤسس لمعركة وجود جديدة أدواتها العلوم والمعارف والانفتاح الواثق على المستقبل، وهدفها التنمية والنماء، وإن لم يتحقق هذا الربيع فقد نبقى أسرى لكذبة «الربيع» لعقود مقبلة، وعلينا أن نواجه أنفسنا بحقائقنا المؤلمة، فالراهن في بلــــدان «الربيع» لا يقل سوءاً عن سابقه. تغيّر الشكل وبقي الجوهر، واستبدلت وجوه جديدة بتلك القديمة، وما زالت الممارسات هي ذاتها، لأن الـــواصلين حديثاً إلى السُلطة منشغلون جداً بتثبيت أركان حكمهم، كما كان سابقوهم منشغلين بقمع كل من يحاول المساس بعرشهم، وما لم نؤمن – كمجتمعات – بأن النقد حق إنساني ومسؤولية وطنية، فإننا إنما نصنع لأنفسنا – من جديد – ديكتاتوريات جديدة ومستبدين جدداً، ولكي نصبح جزءاً فاعــــلاً من مجتـــمع «الأمم الحــــــية» فليس أمامنا سوى قراءة تجارب تلك الأمم الناجحة حينمــــا أعلـــــت مصالح الوطن العليا على مصالــــح الأفراد والأحزاب والجماعات، وحينما تبنت النقد – ونقد الذات تحديداً – منهجاً وفكراً يُحـــتفى به، لا جريمة يحاكم بسببها المخلصون فــــي رؤاهــــم ومخاوفهم الوطنية، أما من دون ربيع للفكر والعقل والمنطق، فسنبقى في عزلتنا عن حقائق اليوم وتحديات المستقبل وآفاقه!
المصدر: صحيفة الحياة