لا تزال إيران بعد 61 عاما على إسقاط رئيس وزرائها الدكتور محمد مصدق صاحب التجربة اليتيمة والمجهضة لعلمنتها، عصية على الديموقراطية ولا يحكمها إلا ديكتاتور، حسب تعبير مثقفين وباحثين إيرانيين. فالمتصفح لتاريخ إيران الحديث يلاحظ كثيرا من التحولات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي عصفت بتلك البلاد، بعضها كان لأسباب ومحركات داخلية بحتة وأخرى لعوامل خارجية لعبت دورا بارزا في كثير من الأحداث على المستوى الداخلي الإيراني. ولقد كان للتأثير الغربي نتائج إيجابية وسلبية على حد سواء، ويعود تعرف إيران على الحضارة الغربية، مبادئها وقيمها، إلى بدايات القرن التاسع عشر الميلادي وبالتحديد بعد الهزيمتين العسكريتين اللتين تعرضتا لها إيران على يد القوات الروسية في 1803 و1827، إلا أن تأثير الفكر الغربي لم يظهر جليا في النتاج الفكري الإيراني إلا خلال الربع الأخير من القرن. ولعلنا نشير هنا إلى تنويريين مثل فتحعلي آخونزاده وأقا خان كرماني وملكم خان وغيرهم ممن تأثروا بالفكر التنويري الغربي (Enlightenment) الذي ظهر بعد الثورة الفرنسية وما تبعها من نظريات معروفة مثل الحداثة والنزعات القومية واللغوية ونحو ذلك.
الثورة الدستورية
ومع بداية القرن العشرين ظهرت أصوات عدة في إيران تطالب بالتخلص من الهيمنة الغربية على موارد البلاد الاقتصادية من جانب، والسعي إلى إحلال نظام ديمقراطي بديلا للنظام القاجاري الديكتاتوري، من جانب آخر. ولعل أبرز هذه المساعي يتمثل في الثورة الدستورية (Constitutional Revolution) التي امتدت لستة أعوام (1905-1911)، وللمرة الأولى في تاريخ البلاد، أثمرت في تشكيل البرلمان الإيراني وإقرار نظام دستوري على النمط الغربي، حيث تمكنت هذه الثورة التي عرفت باتجاهاتها الوطنية والديمقراطية من تخطي الحرب الأهلية إلى عالم من الحريات السياسية والصحفية والثقافية، إلا أن هذا الفصل المشرق من تاريخ إيران في الكفاح من أجل الحرية لم يستمر طويلا حتى تم إجهاضه وقد دفع المطالبون بالحرية في إيران تكلفة باهظة وأهرقت دماء عدد كبير من المناضلين وفر آخرون إلى الخارج.
مرحلة القلم
هذه المرحلة تبعها محاولة أخرى وإن كانت اختلفت عن سابقتها حيث استخدم القلم بدلا من البندقية خاصة خلال فترة ما بين الحرب العالمية الأولى وانقلاب القائد العسكري رضا خان (عرف بعد ذلك برضا شاه بهلوي وهو المؤسس للسلسلة البهلوية التي استمرت من 1925-1979). عندما نقرأ صحف ومجلات تلك الحقبة الزمنية نرى كيف تبلور فكر الدولة العلمانية والنداء بتأسيس نظام جمهوري يعتمد كليا على الثقافة الغربية ومحاولة فصل الدين عن الدولة وإحلال نظام جمهوري بديلا عن النظام الملكي. وقد كرس مثقفون معروفون مثل حسن تقي زاده وحسين كاظم زاده (إيرانشهر)، وإبراهيم پورداوو ومحمود إفشار والعلامة محمد قزويني هذه الفكرة وقضية فصل الدين عن الدولة من خلال مجلات مثل “كاوه”، “إيرانشهر” ثم “آينده” إلى حد ما.
تعزيز الفارسية
من جانب آخر، تعد هذه الفترة القصيرة جدا، من وجهة نظري الشخصية، أكثر فصول تاريخ إيران الحديث تعقيدا، فخلالها تم بذر النواة الأولى للقومية الإيرانية – الفارسية على النمط الغربي، كذلك ظهرت الجمعيات الأهلية ذات الميول السياسية والاجتماعية والمدافعة عن حقوق المرأة وكذلك انتشار الفكر الماسوني وتأسيس ما يعرف بـ”الفراموشخانه” في إيران. شهدت هذه الفترة أيضا، الترويج لثقافة وتاريخ إيران في عصر الساساني وما سبقه من امبراطوريات إيرانية، لكن ماذا حصل بعد ذلك؟ جاء النظام البهلوي في 1925 واستقطب هؤلاء الكتاب والمفكرين ولكنه وباختصار شديد برز في إذكاء النزعة القومية الشيفونية للعرق الفارسي وفشل في تطبيق العلمانية رغم المحاولات الكثيرة من التضييق على العلوم الدينية والحوزات العلمية وإقرار خلع الحجاب وفرض ارتداء الثياب والقبعات الأوروبية، بدل الملابس التقليدية على النساء والرجال. تأثر شاه إيران كثيرا بالنموذج التركي آنذاك الذي ظهر على يد مؤسس تركيا الحديثة كمال آتاتورك. كان رضا شاه معجب أشد العجب بسياسية أتاتورك وقد قام بزيارة خاصة إلى تركيا بهدف التعرف، عن كثب، على السياسات والمنجزات التركية في هذا الصدد، واقتنع كثيرا بتطبيق هذه التجربة على الحالة الإيرانية إلا أن تلك المحاولات، وعلى عكس السياسة الأتاتوركية التي لاقت نجاحا بارزا واستمرت حتى يومنا هذا، لم يكتب لها النجاح، ربما بسبب قوة المؤسسة الدينية واستقلالها، ماليا على أقل تقدير، عن النظام الحكومي، عدا تلك التجربة التي لم تستمر أكثر من ربع قرن، وبشكل متقطع نسبيا، لا يوجد أي محاولة حقيقية لعلمنة إيران.
تجربة مصدق
أما بالنسبة لتحويل الدولة إلى بلد ديمقراطي فليس هناك ما يمكن ذكره إلا محاولة الدكتور محمد مصدق في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، حيث تمثل أول قرار له عندما تسلم منصب رئيس الوزراء في أمر قائد شرطة طهران بعدم التعرض لأي صحفي ينتقد الدولة، وقد صدق الدكتور مسعود كاظم زداه عندما كتب في 2003، وبمناسبة مرور خمسين عاما على إجهاض خطة مصدق ومشروعه الوطني في 1953 على يد السي آي اي (CIA) الأمريكية عبر ما يعرف بعملية (AJAX)، كتب مقالا تحت عنوان “اليوم الذي ماتت فيه الديمقراطية في إيران”، وكما يشير العنوان فإنه لا يرى أي محاولة لتطبيق الديمقراطية في إيران منذ ذلك الوقت حتى حينه، وأحسبه أصاب في ذلك.
فكر استبدادي
السؤال الذي سيدور في خلد أي قارئ لهذه السطور هو لماذا لم تنجح تلك المحاولات وإن كانت خجولة نسبيا؟ الجواب وببساطة شديدة يتمثل في أن الديمقراطية عبارة عن “كتلة واحدة” ولن يكتب لها النجاح عندما يتم التعامل معها بانتقائية تتوافق وفكر موازٍ لها. هذا الفكر الموازي ليس هدفه الحفاظ على خصوصية ثقافية أو دينية بقدر ما هو فكر استبدادي يقصي الآخر حتى وإن كان شريكا في الوطن والمواطنة، إن كانت إيران البهلوية لم تتخلص من التمييز العنصري واضطهاد الأقليات، حيث حرمتهم من تعلم لغاتهم القومية والتراث الذي ينتمون إليه، فإن النظام الذي أطاح بالملكية لم يختلف كثيرا عن سابقه إطلاقا خاصة عندما يكون الحديث عن حقوق الأقليات العرقية والمذهبية.
نتيجة واحدة
فالجمهورية الإسلامية، وأن سلكت منهجا مختلفا عن النظام البهلوي، إلا أن النتيجة في نهاية المطاف واحدة: تهميش للأقليات المذهبية والعرقية واستمرار النظرة الاستعلائية على المنتمين لغير العرق الفارسي وكذلك استمرار “فرسنة” المناطق التركية والعربية والبلوشية وغيرها.
تصادم عرقي
فالفرس يتعاملون مع الأقليات العرقية بصورة سلبية ويتم تصويرها عنهم في الأدبيات والصحف والمسلسلات التلفزيونية التي يتم إنتاجها محليا مما يؤدي إلى تصادم عرقي وإن لم يظهر إلى السطح في كثير من الأحيان إلا أن من لديه تواصل مع الأقليات في إيران أو يتصفح مواقعهم على الانترنت سوف يلاحظ ذلك جليا. لذا فإنه من شبه المستحيل، وفي ظل الفكر السائد حاليا، أن يكون هناك ديمقراطية أو علمانية حقيقية في إيران ليس لأن المجتمع متمسك بنظام ولي الفقيه والمؤسسة الدينية، بل لأن الانتقائية في التعامل مع الفكر الحديث هي الحاجز الذي يقف حجر عثرة في وجه أي محاولة في هذا الاتجاه، خاصة النزعة العنصرية المتفشية في المجتمع الإيراني، وللتأكد من ذلك فإن ساعة أو اثنتين يخصصهما المهتم أو الباحث لتصفح المنتديات والمواقع الإيرانية على الانترنت تبرهن لك، وبما لا يدع مجالا للشك، على هذه الحقيقة التي تؤلم كثيرا من الإيرانيين المخلصين لوطنهم ووحدة الشعب الإيراني.
نظام وعنصرية
إن بعض المتنفذين والمنتمين إلى العرق الفارسي يقومون بوصف الإيراني الأذربيجاني بعبارات غير لائقة ويتم تداولها على نطاق واسع (خلال انتخابات 2009 الرئاسية الشهيرة كان أنصار الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد يطلقون مثل هذه الشعارات ضد المرشح مير حسين موسوي الذي ينتمي إلى الأقلية الآذرية وإن ترعرع في بيئة فارسية بحتة). هذه النظرة العنصرية لا يعاني منها الآذريون فقط بل ينطبق ذلك على بقية الأعراق والأقليات في إيران. بل اقرأ النكت (Jokes) التي يتم إطلاقها على أهل رشت والأحواز وتبريز وغيرها، حينها ستدرك، مدى استحالة تحقق تلك الأمنية إن لم يتم التخلص من هذا التوجه المؤيد أحيانا من قبل النظام ولاعتبارات كثيرة.
نوافذ ضيقة
ماذا يعني هذا كله؟ يعني أن الفكر القومي أو الانتماء للقومية المناطقية متقدم وبمراحل على الانتماء للوطن الكبير- إيران. إن التفكير من خلال هذه النوافذ الضيقة هو ما يمنع إمكانية تطبيق ديمقراطية شاملة في البلاد، الديمقراطية الحرة تعني أن الأقليات العرقية يحق لهم المطالبة بمدارس يتعلمون فيها لغتهم الأم وليس لغة فئة معينة من الشعب وتعميمها على البقية، عندما يستطيع العربي الإيراني أن يدرس باللغة العربية والتركي بالتركية.. الخ، وعندما يدرس المذهب السني في مدارس المناطق ذات الأغلبية السنية نستطيع حينها الحديث عن إمكانية نجاح الديمقراطية في إيران. قد يقول قائل: لماذا يكون ذلك مستحيلا في إيران بينما يكون واقعا نعيشه في دول غربية خاصة بعض الدول الأوروبية حيث يمثل الشعب مزيجا متباينا من العرقيات والأديان؟ هذه نقطة جيدة ولكن البون شاسع جدا بين تلك الدول وإيران وغيرها من دول العالم الثالث التي تلتقي وإيران من حيث طبيعة التركيبة السكانية المعقدة، تلك الدول الغربية لا يوجد بها هذه الحساسية المفرطة والصراع الإثني كما هو الحال في إيران. في ذلك الجزء من العالم (وهذه حقيقة لا نستطيع إنكارها حتى وإن اختلفنا مع تلك الدول وتوجهاتها في كثير من النقاط) تستطيع أن تحاكم (على الأقل من الناحية النظرية وما يضمنه القانون من حقوق لكل فرد) من يعاملك بشكل عنصري سواء كانت تلك العنصرية دينية أو عرقية، بل انظر إلى دولة صغيرة بحجم سويسرا، كيف أصبحت ثلاث لغات مختلفة تعد لغات وطنية ورسمية ولم يتم منح أفضلية خاصة لمن يتحدثون بإحدى هذه اللغات الثلاث أو معاملة من يتحدثون باللغتين الأخريين بشكل عنصري أو يشعر بشيء من الدونية والاحتقار، ذلك لأن الشعب السويسري تجاوز هذا التفكير مراحل عدة، والأمثلة حول هذا الموضوع أكبر من أن نحصرها في هنا.
أوهام الانفصال
توجد في إيران شكوك مستمرة (بعضها غير مبررة)، من أن العرب يسعون للانفصال والترك يودون الانضمام إلى الجمهورية التركية أو جمهورية أذربيجان، والأكراد يحلمون بتشكيل دولتهم الخاصة.. الخ، مع العلم أنه ليس كل تلك الأقليات تفكر في الانفصال إن حصلت على كافة حقوقها. ولعلي أختم بنقاش على هامش مؤتمر حضرته تم قبل فترة، فقد كنت في لقاء مع مفكرين إيرانيين من بينهم أستاذان جامعيان إيرانيان مشهوران في حقل الدراسات الإيرانية، أحدهما يدرس في جامعة أكسفورد البريطانية ويشرف على دورية بحثية مرموقة في مجال الدراسات الإيرانية، والآخر من جامعة أريزونا الأمريكية ونشر العديد من الكتب والأبحاث في الشأن الاجتماعي والسياسي الإيراني، وتطرقنا إلى مواضيع كثيرة من بينها موضوع الحداثة والديمقراطية في إيران وإمكانية تطبيقها هناك. هل تعلم، ماذا كانت خلاصة ذلك النقاش؟ اتفق الحاضرون- ومعظمهم من الإيرانيين- على أنه من المستحيل تطبيق الديمقراطية في إيران بسبب تنوع الأعراق هناك، بل قال أحدهم “في ظل العقلية الحالية التي تسيطر على غالبية الشعب الإيراني والنخبة الحاكمة، حتى وإن حاول البعض تجاهل ذلك أو إنكاره، فلا يمكن أن يحكم إيران إلا ديكتاتور”. وهنا نتساءل هل هذه حقيقة لا يمكن تغييرها؟ الإجابة، من وجهة نظري، بيد المجتمع الإيراني وحده ولا أحد سواه خاصة ونحن نعيش هذه الأيام الذكرى الواحدة والستين للإطاحة بحكومة الدكتور محمد مصدق (19 أغسطس 1953)، فإذا أراد هذا المجتمع الانتقال إلى مرحلة جديدة أكثر ديمقراطية وعدالة تشمل كافة مكوناته وأطيافه وانتماءاته فعليه، أولا، التخلص من الصراعات القومية وعلى الغالبية الفارسية أن تنظر إلى بقية الأقليات الإثنية والمذهبية كشركاء في الوطن وليس مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة وينعكس ذلك على حياتهم اليومية وتعاطيهم الرسمي والشعبي مع المنتمين إلى تلك الأقليات. د. محمد بن صقر السلمي – خبير في الشؤون الإيرانية المصدر: مكة أون لاين