كاتب و إعلامي سعودي - رئيس تحرير صحيفة "الشرق الأوسط"
لم تحظَ الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في سوريا قبل ستة عشر شهراً بذات الحماس والتهليل لدى قطاع واسع من المثقفين والكتاب عربا وغربيين، كالذي حظيت به الانتفاضتان التونسية والمصرية.
السبب – كما يقولون – هو أن تونس ومصر شهدتا «ثورات سلمية»، فيما تحولت انتفاضتا ليبيا وسوريا إلى حرب أهلية. بالنسبة لهؤلاء، فإن الموقف الأخلاقي من نظامي بن علي ومبارك واضح، بينما هناك خلاف كبير حول الموقف من الحدثين الليبي والسوري. الأول لكونه شهد تدخلاً خارجياً من قبل دول خليجية وأوروبية، من خلال الجامعة العربية وحلف الناتو، والثانية لكونها «ثورة مسلحة» مكونة في أكثرها من «السنة»، وتضم بين صفوفها إسلاميين وسلفيين. لأجل ذلك تجد كتاباً ومثقفين عربا وغربيين، متشككين في الانتفاضة السورية، فتارة يتهمونها بالطائفية، ويخشون من حرب أهلية بين المكونات المجتمعية، وتارة أخرى يتحدثون عن سيطرة جماعات أصولية «سلفية» أو «قاعدة» عليها، ولهذا يحذرون من دعمها عسكرياً. طارق علي، الكاتب اليساري المعروف، يجادل منذ بضعة أشهر بأن المعارضة المسلحة ضد نظام الأسد، مرتبطة بأجهزة استخبارات غربية تحاول إطاحة النظام، والمجيء بحكومة استعمار عميلة. اللافت في هذا كله أن طارق علي، وبعد كل المعارك التي جرت، مازال يطالب بحوار بين المعارضة ونظام الرئيس بشار الأسد.
من الطبيعي أن يدافع أنصار محور المقاومة والممانعة عن النظام السوري، ولكن من المثير للانتباه، أن هناك من ناشطي الديمقراطية، والكتاب الغربيين، ممن دعموا حرب العراق في عام 2003، يحذرون من أن سقوط النظام السوري، يعني حربا طائفية مفتوحة بين السنة والعلويين. في حوار مع والي نصر -مؤلف كتاب «الانبعاث الشيعي» ـ عن الأزمة السورية، حذر فيه من تنامي البعد الأصولي السني في المعارضة المسلحة، وأن سقوط الأسد سيقود إلى حالة انتقام سني من الأقليات، وعلى رأسها الطائفة العلوية. يقول نصر: «اليوم، وبعد أن سفكت دماء كثيرة في سوريا، هناك إحساس عارم بالخوف من ردود الفعل حين تفقد الأقليات السلطة» (ما يعنيه الصراع على السلطة في سورية ـ مجلس الشؤون الخارجية، 4 يونيو 2012). ولكن، هل الانتفاضة السورية سنية حقاً؟ يحاول بعض المتحمسين للانتفاضة السورية أن ينفوا جملة وتفصيلاً تورط الانتفاضة الشعبية بسوريا في الطائفية، ويحملون النظام وحده المسؤولية عن استثارة البعد الطائفي، فيما يرى آخرون أن الطائفية غير حاضرة، بدليل أن شخصيات ورموزا كثيرة من المعارضة في الخارج والداخل تنتمي إلى العلويين والمسيحيين والدروز والأكراد. هذا صحيح، ولكن في المقابل، من الصعب أن ننفي غلبة الطائفة السنية بين صفوف المعارضة في الخارج والداخل، ولا الحضور القوي لجماعة الإخوان في المؤتمرات التي عقدت في اسطنبول والقاهرة. بيد أن مرد ذلك في الحقيقة ديموغرافي، حيث إن السنة كطائفة، هم أكبر الطوائف تعداداً، وهم يشكلون النسبة الأكبر في أغلب المدن السورية والمحافظات.
في حقيقة الأمر، الانتفاضة السورية لا تختلف من حيث المبدأ عن تلك التي شهدتها تونس، أو مصر، أو ليبيا. والمخاوف التي يطرحها المشككون في الانتفاضة السورية -رغم وجاهة بعضها – مثل بروز دور الإسلاميين والسلفيين، موجودة تقريباً في أغلب دول «الربيع العربي». إذا، لماذا ينبغي إدانة الانتفاضة السورية أو التخويف منها، لأن بعض مقاتليها «سلفيون»، ويتم في الوقت ذاته مباركة الثورة على الرئيس السابق حسني مبارك، وهي التي جاءت بالسلفيين لمجلسي البرلمان والشورى. إذا كان هناك موقف من الإسلاميين أو السلفيين في انتفاضات «الربيع العربي»، فلماذا يتم التركيز عليه في سوريا، والسكوت عنه في مكان آخر. خذ على سبيل المثال الانتفاضة الليبية، حيث سارع مندوب لبنان خلال دورة مجلس الأمن) سبتمبر 2011) إلى طرح التصويت على قرار التدخل العسكري في ليبيا، بينما لبنان الرسمي والحزبي اليوم مساند لنظام الرئيس بشار الأسد. يحاول الأفراد، وكذلك الحكومات، تغليف خياراتهم باللباس الأخلاقي، وإيجاد الأعذار والمبررات حين لا تتوافق مع مصالحهم الشخصية، أو لا تتسق مع ميولهم الفكرية. بالنسبة للدول يبدو الأمر واضحاً، فالمفترض في الدولة – أياً كانت – أن تسير وفق مصلحتها، ولكن في حالة المثقفين والكتاب يغدو الأمر صعباً، فقليل هم من يعترفون بخطأ خياراتهم. خذ على سبيل المثال أيضا، أنصار المحور السوري ـ الإيراني، الذين كانوا يتهمون بعض الأنظمة العربية بالعمالة لأميركا والغرب، هؤلاء نادراً ما تحدثوا عن الاستبداد السياسي في إيران أو سوريا، ولكن حين تعلق الأمر بإطاحة أنظمة لا تتقاطع مع مصالحهم، هللوا لذلك. المعارضة السورية في الوقت الحاضر تعاني من الاضطرابات والمشاكل ذاتها، التي تعاني منها مثيلاتها في دول «الربيع العربي»، ففيها الصادق الذي يدافع عن نفسه وأهله، وهناك من لهم ميول متطرفة، وفوق هذا وذاك تعاني من الانقسام، وانعدام الرؤية السياسية الواضحة لأي مشروع انتقالي، لبناء مؤسسات دولة حديثة. كما ترى، بالإمكان انتقاد المعارضة السلمية والمسلحة لأسباب عديدة، ولكن التركيز على «السنة» أو التخويف من «سلفنة» الانتفاضة، لا يبدو بريئاً، بل تختفي وراءه مواقف مصلحية وأهواء أيديولوجية.
خلال أربعة عقود من هيمنة حزب البعث السوري، أنشأ النظام السوري علاقات وثيقة بإيران لأسباب استراتيجية، وأيضاً طائفية، ودعم حزب الله في لبنان لأسباب استراتيجية وطائفية كذلك. وإذا كانت الأصولية الدينية تهمة، فإن النظام نفسه كان يدعم حركة أصولية متشددة مثل «حماس»، والتي لم تدن حتى الآن بشكل صريح، ما قام به النظام السوري، رغم حجم الأضرار البشرية الهائلة. كما ترى، يعتمد موقفك من انتفاضة ما، على الزاوية التي تنظر منها إليها. الجيش السوري على سبيل المثال، لا يمكن النظر إليه بوصفه جيشاً طائفياً، على الأقل حتى بداية الثمانينات، بل كان معظم جنوده وضباطه من الطائفة السنية، ولكنه يشهد الآن تفككاً متواصلاً نتيجة للانشقاقات اليومية. ما هو ملاحظ في هذه الانشقاقات، هو أنها في معظمها من الطائفة السنية، والنظام ذاته الذي كان يتشكل من تحالف علوي ذي أقلية بمشاركة سنية، بات اليوم يعاني من انشقاق رجال النظام من الطائفة «السنية» إما لاقتناعهم بالنهاية الوشيكة له، أو أن النظام ذاته قد بدأ يشك فيهم ويضعهم قيد الإقامة الجبرية. في تقرير نشرته «ديلي تلغراف» بعنوان «ما وراء المذبحة السورية» نقلت الصحيفة عن عدد من المصادر الاستخباراتية، أن بعض السكان العلويين لم يعودوا يثقون بالجيش، أو في قدرة النظام على حمايتهم في المدى المنظور، ولهذا عملوا خلال الشهور الماضية، على تكوين ميليشيات خاصة بهم، شبيهة بما حدث في لبنان خلال الحرب الأهلية (13 يوليو/تموز). أما «صنداي تايمز» فاعتبرت أن ما حدث من مجازر، كان متعمداً من قبل الميليشيات العلوية كتطهير طائفي لتلك القرى والمدن، يمهد لقيام دولة علوية على الساحل السوري (15 يوليو). قد تكون هناك مبالغة في هذه السيناريوهات، والتاريخ السوري الحديث، وكما تضمن نزاعات طائفية، كان فيه – أيضاً- نماذج للتعايش المدني والوحدة الوطنية.
إذا المشكلة ليست صعود «السنة»، بل فشل النظام البعثي بسوريا في أيديولوجيته الممانعة في التأسيس لدولة مدنية حديثة، ولأجل ذلك فإن الضرر من رحيل هذا النظام في هذا التوقيت يفوق بقاءه.