إعلامي سعودي
لا يتجاوز عدد السياح العرب الخليجيين إلى تركيا أكثر من مائتي ألف في العام، في حين كان عدد السياح الروس أربعة ملايين، والإيرانيين مليونا ونصف المليون كل عام.
هذه الأرقام يمكن أن تساعدنا على فهم العلاقات بين الدول، ما الذي يؤثر فيها، حقًا. والرئيس التركي الطيب رجب إردوغان قال أخيرًا إنه يعتزم إصلاح علاقات حكومته مع دول الجوار التي تضررت بسبب الخلافات حول سوريا، ولا بد أن الاقتصاد سبب مهم لذلك. فالسياحة في تركيا مصدر مهم للاقتصاد، تجلب نحو ثلاثين مليار دولار سنويا، وكان أول قرار اتخذه الرئيس فلاديمير بوتين بعد إسقاط المقاتلة الروسية، التي اخترقت الأجواء التركية، هو وقف سفر مواطنيه إلى هناك وفورا حلت بالقطاع السياحي أزمة كبيرة.
ومن دون اقتصاد مزدهر لا يستطيع إردوغان تعزيز حكمه، ولا استمرار حزبه في تحقيق الأغلبية في انتخابات البرلمان والبلدية. وهذا يعني أن عليه أن يراعي كذلك علاقات بلاده مع أوروبا التي تعتبر الشريك الاقتصادي الأول لبلاده، والحقيقة أن الاتفاقية التجارية التي وقعت في منتصف التسعينات مع الاتحاد الأوروبي هي التي غيرت وجه تركيا وضاعفت قوة اقتصادها أربع مرات. تركيا اليوم تأتي في المرتبة الـ17 في مجموعة الدول العشرين، ذات الاقتصادات الكبرى، السعودية في المرتبة الـ14.
ويستطيع الرئيس إردوغان بعد فشل الانقلاب أن يفعل ما يريد داخل بلاده، لكنه لا يستطيع أن يؤثر كثيرا على الخارج، حيث إن سبب نجاح حزبه ونجاحه شخصيا، يعود للازدهار الاقتصادي، ومن دون استمرار هذا الازدهار ستظهر متاعب ومخاطر أعظم عليه من المحاولة الانقلابية. وهو ما يفسر الكثير من تناقضات السياسة العلنية للحكومة التركية مع نشاطاتها المختلفة. فتركيا هي أكثر بلد دعم إيران خلال فرض العقوبات الاقتصادية الغربية عليها، وكانت الشريك التجاري الأول لإيران. كما أنها على علاقة جيدة مع الروس الذين يعتبرون تركيا شريكا مهما لهم في وسط آسيا، وممرا حيويا لصادراتهم لأوروبا.
إن اختار إردوغان تصفية خصومه في الداخل نتيجة المحاولة الانقلابية فمن المرجح أن لا أحد يستطيع منعه، ولن تفعل حكومات الدول الغربية شيئا مهما قست لغة بياناتها التحذيرية ضده. إنما من المستبعد تماما أن يلجأ لمحاسبة الدول الكبرى أو مقاطعتها، مثل تهديده للولايات المتحدة إن لم تسلمه خصمه غولن الذي يقطن في ولاية بنسلفانيا ويتهمه إردوغان بالضلوع في مؤامرة الانقلاب. فتركيا عضو في حلف الناتو، وللحلف قواعد ووجود عسكري كبير ضمن استراتيجية الغرب في مواجهة روسيا. يستطيع إردوغان أن يلغي اتفاقات بلاده مع حلف الناتو، وهذه الأيام ليس غريبا فسخ الاتفاقات الكبرى؛ فبريطانيا فاجأت الجميع بقرارها الخروج من الاتحاد الأوروبي، لكن مصالح تركيا العسكرية والاقتصادية ستتضرر بشكل كبير، وهذا ثمن طموح النجاح الاقتصادي والتحالفات الدولية.
قد تغير أحداث محاولة الانقلاب رؤية الرئيس إردوغان تجاه علاقاته الخارجية، لكنه يظل سياسيا ذكيًا مهما جنح في خطبه الحماسية فإنه لا يغامر كثيرا، كما رأينا في سياسته حيال سوريا على مدى خمس سنوات صعبة. فهو رغم كل تهديداته لم يدخل الحرب، واختار إدارة المشاركة عن بُعد ومن خلال دعم القوى المعارضة دون التورط مباشرة، حتى عندما دخل الإيرانيون والروس بقواتهم. وهو الآن مستعد لإعادة النظر في خلافاته مع هذين البلدين حيال سوريا، لا نعرف في أي اتجاه بعد، لكن يبدو أنه في طور إعادة حساباته.
المصدر: الشرق الأوسط