محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت
يتصاعد الاشتباك السياسي في مصر إلى درجة الاحتقان الذي قد يؤدي، إن سارت الأمور من دون ضبط، إلى انشقاق حقيقي لم يحدث في التاريخ المصري الحديث، فقد كان المجتمع المصري طوال تاريخه مرتبطا بمجرى النيل الذي يتماسك في سريانه رغم سيولته. السبب هو محاولة الاستحواذ على الدولة المركزية من أحد طرفي الشقاق وتهميش الآخر، غافلا عن تغيرات الأزمنة ومطالب العصر، التي تؤسس إلى استحالة التهميش واستحالة «التكويش»!
«الإخوان»، أو الجماعة، وهو الشق العام لمن هم اليوم في المعارضة، إن أردنا تسمية الأمور بأسماء محددة، فقدوا السلطة في شكل تنحية الرئيس محمد مرسي من الحكم، ولكنهم غفلوا عن حقائق أخرى هي لصالحهم، فلأول مرة في تاريخ «الإخوان» يصبحون فريقا سياسيا معترفا به وعلى قدم المساواة، وقادرا على تحريك جماهيره من دون خشية السلطة القائمة، كما كان في العصور السابقة من الملك فاروق إلى عصر مبارك.
الحقيقة الأخرى التي غفلوا عنها أنهم وصلوا إلى تنصيب رئيس جمهورية من صفوفهم، إلا أن ذلك الرئيس جاء بأغلبية ضئيلة، وفي ظروف معقدة، صوّت الناس تخوفا من الضد وليس موافقة، لم يعرف الرئيس المنتخب ولا محازبوه كيف يمكن توسيع تلك الأغلبية ببناء تحالف موسع تفرضه طبيعة المرحلة الانتقالية، كما تقرره مرونة تقاسم الأعباء. إلا أن العجلة للاستحواذ غلبت على التأني والتدرج، فتراكمت الأخطاء التي أدت إلى نفور شعبي واسع، كانت نتيجته الحتمية تدخل الجيش.
العناد والمناكفة والإصرار على عودة الماضي قصور سياسي يضاف إلى أخطاء الجماعة، كما أن اعتبارها كما مهملا عناد باتجاه آخر.
في مصر هناك قطاع سياسي – اجتماعي حديث، يمكن تسميته بشكل كلي «قوى حديثة»، هذا القطاع فيه جزء غير منظم حتى الآن، وهي القوى الشبابية والجديدة، وفيه جزء منظم تنظيما محكما وفاعلا هو الجيش، وهو بجناحيه يشكل محصلة التطور الحضاري المصري، ولديه أجندة أخرى للدولة على خلاف ما جاءت به الجماعة، هي أجندة الدولة المدنية الحديثة.. هذه القوى الحديثة لا يستهان بها في المجتمع المصري ومركزة في المدن، وإن كانت قوة الجماعة مركزة في الأرياف.
في صفحة الخسائر والأرباح نجد أن الجماعة حققت بعض الأرباح، ونالتها بعض الخسائر، كما أن القوى الحديثة حققت أرباحا ويمكن أن تحقق خسائر.
إذن المجتمع المصري بتوجهاته المتعارضة يسير حثيثا إلى معادلة صفرية، إما النصر الكامل لشق سياسي أو الخسارة الكاملة، وهي معادلة عمياء لكلا الطرفين، وفي الطريق إليها سوف تسيل دماء ربما غزيرة أو تعود مصر إلى حكم استبدادي يقول البعض إنها قد تعودت عليه إلى درجة الإدمان!
لأن الخسائر في هذا الصدام فادحة، ليس على مصر وحدها، لكن على النظام الإقليمي العربي، فمصر هي قاعدته، وإذا كان «الإخوان» والفريق المناوئ لهم يرون في أميركا أنها غير محايدة أو تدخلها غير فعال، بسبب قصور فاضح في فهم الواقع المصري، بجانب فشل أوروبي حاول تلمس حلول وسط من دون نتيجة، فإن وجود مبادرة خليجية مطلوب قد يمهد لسكة تواصل معقولة وبناء رأس جسر، خصوصا أن بعض الخليجيين لهم موضع قدم في كلا المعسكرين، بجانب التعضيد المادي الكبير الذي تدفق منذ ثورة 25 يناير (كانون الثاني).
إلا أن الواقع يقول لنا إن بعض القوى بمصر في كلا الطرفين، لا ينظرون إلى مبادرة خليجية نظرة الرضا، بدافع الفخر أو بدافع الخوف من خسارة ما قد يتحقق لمعسكرهم، لذلك فإن المبادرة الخليجية، إن وجدت، عليها أن تأخذ في حسابها تلك المقاومة من جهة، وذلك التوق إلى الحرية من جهة أخرى، إلا أنها (أي المبادرة) في غياب حلول أخرى مطلوبة.
مواصفات المبادرة الخليجية هي ليست إمساك العصا من الوسط، بل أن تكون واضحة المعالم من دون لبس، حتى يمكن إقناع الأطراف بها، وقد تركب على قاعدتين؛ أولا ضرورة اللجوء إلى صناديق الانتخاب في نهاية الأمر لحسم الموضوع كليا والرضا بما تفرزه الصناديق، فليس هناك فريق يستطيع إلغاء الفريق الآخر كليا من المعادلة، وثانيا، وهو مهم، فصل واضح بين الجماعة الدعوية والجماعة السياسية، مطلق ونهائي، والقاعدتان متزامنتان.
الورقة الأفضل والأكثر تأثيرا التي يمكن أن يكسب بها أي طرف من طرفي المعادلة المصرية جزءا كبيرا من التعاطف، هي الدعوة للديمقراطية. لا عودة الرئيس السابق محمد مرسي، ولا «الإسلام هو الحل» ولا ما يتفرع منه من شعارات جاذبة اليوم للجمهور. من يتمسك بهذه الورقة (عودة الديمقراطية) هو الرابح في نهاية المطاف.
يربح لأن تلك الورقة تجد لها قبولا على المستويين المحلي والعالمي، كما أنها أمل الجمهور ومسايرة لطبيعة العصر. جزء من الورقة الرابحة لدى الجماعة، لكنها لا تلعب بها بالطريقة الصحيحة، فهي تراوح، إرضاء لقطاع من جمهورها، بين طلب عودة الشرعية من وجهة نظرها التي أصبحت واقعيا غير ممكنة، وشعار «الإسلام هو الحل» الذي لم تعد جماهير أخرى تعتقد بمضمونه، كما طبق في العام الطويل من المناكفة والانكفاء الاقتصادي. المعضلة التي تواجه الجماعة إن هي غادرت المطلبين أن تفقد جزءا غير يسير من جمهورها.
يستطيع الطرف الآخر أن يكسب اللعبة إن طرح بقوة الاحتكام إلى الصناديق، ووضع جدولا زمنيا للوصول إليها من دون تأخير أو لبس، فهي المنجي من صراع طويل ومقيت قد يأخذ مصر ومعها المنطقة إلى طريق مجهول.
إذن المبادرة الخليجية – إن وجدت – ليس أمامها إلا التمسك بتحقيق الديمقراطية الانتخابية في وقت معقول من الزمن، مع رافعة مالية ضخمة تصل ثمارها إلى المواطن المصري العادي الذي ارتفعت توقعاته المعيشية منذ خرج إلى الشوارع وشعر بقوة تأثيره. الانتظار إلى أن يحقق أحد الطرفين غلبة على الآخر بمثابة انتظار الموت البطيء.
القول أسهل كثيرا من الفعل، الفعل هو أن ترفد دول الخليج مجتمعة قوتها المالية بتصور سياسي فعال، قد لا يكون في البداية مقبولا بشكل كامل من طرف أو كلا الطرفين، وربما تنسق المبادرة الخليجية مع أطراف دولية لها مصلحة في استقرار مصر ونمائها، للوصول إلى حلول تبعد الأسوأ من الاحتمالات.
ترك أمور مصر إلى تدافعات الحركة الذاتية الداخلية قد يوصل إلى نقطة صدام، حيث يعتقد كلا الفريقين أن الحق معه، يقول المتشائمون إن الحركة الذاتية الداخلية في النهاية قد تؤدي إلى تقسيم مصر، والتي يعتقد كثير من المحللين أنها غير قابلة للانقسام، إلا أن أول دروس السياسة هي توقع اللامتوقع، أو لا سمح الله، تقع تحت حكم استبدادي، لا يكترث، كما يفعل بشار الأسد في سوريا، بعدد الضحايا الذين يمكن أن يقدموا على مذبح الاستحواذ على السلطة. التمترس خلف مطالب غير واقعية من قبل الجماعة يؤكد من جديد سذاجتها في التعامل السياسي الذي من أول متطلباته المرونة وفهم متغيرات العصر.
آخر الكلام:
نشرت مجلة الـ«فورن أفيرز» في عددها الأخير موضوعا حول الدول الفاشلة، وأسباب فشلها، تضمنت القائمة تسعا وخمسين دولة، منها ثماني دول عربية هي اليمن، الصومال، لبنان، مصر، العراق، ليبيا، السودان، سوريا، الحبل السري الذي يربط كل هذه الدول العربية هي أنها.. جمهورية! ومنا لمن يهمه الأمر.
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط