
كاتب و ناشر من دولة الإمارات
خاص لـ هات بوست:
“الوجود الأصيل يبدأ حين يتوقف الإنسان عن العيش كما لو أن الآخرين يقررون مصيره.” – مارتن هايدغر
منذ طفولتنا الأولى لا نكتب نحن قصة حياتنا، بل تُكتب لنا. العائلة ترفع سقف التوقعات، المدرسة ترسم الطريق، والمجتمع يوزع علينا قوالب النجاح والفشل. وسط هذا الزحام، نجد أنفسنا نلهث خلف صورة نظنها “مقبولة”، لا خلف حقيقتنا المختبئة. وهنا تبدأ بوادر شرخ خفي: أن تشعر أنك تؤدي حياة لا تخصك.
هذا الشعور ليس مجرد انزعاج عابر، بل هو بداية الاغتراب عن الذات. يصف علماء النفس هذه الحالة بأنها فقدان الصلة مع “الذات الحقيقية”. نصبح أسرى لأدوار اجتماعية مفروضة. نبتسم. لكن وجوهنا لا تعكس دواخلنا. نسعى وراء أهداف لا تعبّر عنا. ومع مرور الزمن يطلّ علينا تساؤل مُلحّ من دواخلنا: من أنا حقًا؟
نحن في جوهرنا أبناء بيئتنا، نحمل بصمتها كما يحمل الجسد ندوب طفولته. العادات والتقاليد والقبيلة تمنحنا إطارًا من الانتماء والأمان، لكنها في الوقت نفسه تجعل الخروج عن مبدأ الجماعة أمرًا شاقًا. فالمجتمع بطبيعته يميل إلى التشابه، ويجد صعوبة في تقبّل المختلفين. لذلك يتعلم الإنسان منذ صغره أن يشبه الآخرين ليُقبل، وأن يخفي اختلافه كي لا يكون موضع تساؤل. وهكذا نعيش في مفارقة دائمة: نبحث عن الأصالة، لكننا نخشى أن ندفع ثمنها من مكانتنا داخل الجماعة.
لكن بين كل هذه الضغوط، تظل الحياة تمنحنا هدية خفية: اللحظة الحاضرة. فهي الفرصة الوحيدة التي نملكها لنتحرر من “الطيار الآلي” الذي يجرّنا دون وعي. (من لا يعي اختياراته، لا يملك أن يختار.) والوعي هو الخطوة الأولى لاستعادة حقيقتنا.
الفلسفة تخبرنا أن كل شيء عابر، والزمن يسلب الزيف ويُبقي الجوهر. وما نظنه خسارة قد يكون انكشافًا، وما نراه قيدًا قد يصبح بداية تحرر. الأصالة ليست رفاهية فكرية، بل هي شرط للعيش الإنساني.
ليست الحياة سباقًا مع الآخرين، بل رحلة بحث عن الصدق مع الذات. ومن يملك الشجاعة ليعيش لحظته بوعي، هو وحده القادر أن يكتب قصته بنفسه… لا أن يتركها مكتوبة بالنيابة عنه.
وحين يمضي الزمن وتراجع ذكرياتك… هل ستتعرف إلى نسختك الأصلية؟